q
لم يذهب ذكاؤها سدىً، ولو أنها أكملت دراستها لأصبحت مثلي موظفا ريعيا ذا راتب محدود أو كما يُقال عبداً من عبيد الدولة مرهون بعملي الوظيفي الحكومي الرتيب، فالإنسان الذكي يمكن أن يوظّف ذكاءه في الدراسة أو سواها، ومن حسن حظها أنها استخدمت ذكاءها في القطاع الخاص وأفلتت من قبضة الدولة الريعية...

استخدام العقل والتفكير والذكاء يقود الإنسان إلى النجاح، هذه هي الجملة الأولى التي قالها لي صديقي حين التقينا بعد فراق طويل، ثم حكى لي حكاية هو بطلها قد تبدو بالنسبة لنا من عالم الخيال، وها أنا أنقل لكم حكايته كما هي، قال:

كانت مفاجأ مدهشة حين رأيت إحدى الطالبات الصغيرات تجلس معي في الصف الأول الابتدائي، وتقتسم معي المقعد الذي يسع لاثنين فقط، ومنذ الأيام الأُوَل بدأت مؤشرات الذكاء تظهر لديها، ثم تفوّقت عليَّ في كتابة الحروف بإتقان، بل تفوّقت على جميع طلاب الصف، وكانت علاماتها في القراءة والحساب والدين تأتي كاملة، كما أن المعلم كان يخبرنا بأنها تمتلك موهبة كتابة الحروف بإتقان تام.

ثم انتقلنا معا إلى الصف الثاني الابتدائي، واتفقنا أن نكون في مقعد دراسي يضمّنا معا، وبدأت سنتها الدراسية الثانية بذكاء مضاعف متوقد واكتسحت الجميع، حتى أن مرشد الصف اختارها لتكون مراقب الصف، واستغرب الطلاب (الذكور) هذا الاختيار، لكنها نجحت في اختبار ضبط الصف نجاحا باهرا، وحصلت على نتيجة الأول على الصف، وفي الصف الثالث تكرّرت نفس الأحداث، لكنها صارت في المراقبة أشدّ وأكثر ضغطا على الطلاب.

في الصف الرابع نما جسدها بشكل سريع، وبدأت ملامح الأنوثة تظهر عليها، شاع أسمها بين صفوف المدرسة لأنها المراقِبة الوحيدة في جميع صفوف المدرسة، وتطور ذكاؤها بشكل لافت حتى أنني كنت أقرب المنافسين لها لكن مسافة من الذكاء كانت تفصل بيننا، وقبل أن نؤدي الامتحانات النهائية بأسبوع واحد فوجئنا بغيابها عن الصف، سأل عنها المرشد والمعلمون الآخرون لكننا لا نعلم السبب، ربما هي مريضة!!، هكذا ردّد الطلاب.

غابت الطفلة الذكية عن الصف أياماً متتالية، ولم تؤدي الامتحانات النهائية للصف الرابع، بل غابت عن الدراسة إلى الأبد، فيما بعد عرفنا أن الأب منعها بعد أن لاحظ بزوغ علامات الأنوثة في جسدها، وقرّر الاكتفاء بهذا القدر من التعليم لابنتهِ التي تشعُّ ذكاءً ونشاطا وانضباطا.

توالت علينا صفوف الدراسة صفٌّ بعد آخر، وقفزتُ أنا إلى مرتبة البنت الذكية الغائبة، وصرتُ أتفوق على الجميع بعلاماتي وأصبحت محطّ اهتمام المدرّسين والطلبة، وتابعتُ تعليمي وأنهيت دراستي الجامعية بنجاح وتفوق، وصرت أستاذا جامعيا، وحصلتُ على تعيين في الدولة بعد أن نلتُ شهادتيّ الماجستير والدكتوراه، وبدأت أقبض راتبا شهريا جيدا دفعني للزواج ومن ثم الانشغال في بناء بيت للأسرة لكنني بقيتُ أسير الراتب الوظيفي الثابت!

أحيانا كانت تخطر في بالي الطفلة التي تقاسمنا أنا وهي مقعد الدراسة حتى الصف الرابع، وكنت أتذكر ذكاءَها العجيب ثم أتساءل مع نفسي، ماذا لو أنها أكملت دراستها؟، لا شك أنها سوف تصبح أستاذة جامعية متميزة تتفوق عليَّ، ثم أخذتني الوظيفة الجامعية في الحكومة، براتب ثابت ومجهود علمي يتكرر سنويا، وضعتُ في دوّامة الاحتياجات العائلية والتدريس وبقيت أسير الراتب المحدود والوظيفة الريعية، كأنني محكوم بهذا الوضع الرتيب مدى حياتي.

ذات يوم كنتُ أتجول في شوارع المدينة أبحث عن بطارية جافة لسيارتي، فرأيت محلّاً كبيرا متميزا يختص ببيع الإطارات والبطاريات، قررتُ شراء بطارية منه، وما أن دخلت حتى أصابتني نفس المفاجأة التي حدثت لي في الصف الأول الابتدائي ولكن لأسباب مغايرة، لقد رأيت الطالبة التي تقاسمت معي مقاعد الدراسة الابتدائية، تسمّرتُ في مكاني مذهولا، ودققتُ النظر في وجهها، نعم إنها هي تجلس في غرفة شفافة الجدران خلف طاولة من خشب الصاج في مكتب تبدو عليه الأبهة والثراء، كنتُ أتلفّت بين حين وآخر إلى الحجم الكبير للمحل والطوابق العديدة له، جاءني أحد العمال ليسألني عن حاجتي، فتركته وذهبت إلى زميلة الدراسة، دخلتُ عليها في مكتبها، لم تنتبه لي رغم أنها رأت وجهي، لم أثر ذاكرتها مع أنني عرفتها بعد ثوان لا أكثر، كان المكتب يضم بعض الزبائن، وحين خرجوا سألتني عن حاجتي، ولم تعرفني إلا بعد أن طلبتُ منها ذلك، قلتُ لها ألم يذكّرك وجهي بشيء، كانت منشغلة بعملها وتركيزها كله ينصبُّ على وصولات المواد المشتراة وأسعارها التي قبضتها من الزبائن.

بعد لحظات إضافية، رفعت رأسها وركّزت بصرها في وجهي ثم فجأة نهضت من كرسيّها وسألتني:

- أنت فلان، زميلي في الدراسة الابتدائية، أليس كذلك؟؟

- نعم هو أنا.....

تحدثنا طويلا، وسألتها بلوعة وألم وإلحاح:

- لماذا تركتِ الدراسة؟ لو أنك مستمرة لكنّا معا أنا وأنت ندرّس في جامعة واحدة، فأنا الآن أستاذ جامعي حاصل على الدكتوراه...

لم ألحظ الأسف في ملامح وجهها بل طمأنتني على وضعها، وأخبرتني بأنها دخلت في القطاع الخاص في عمر مبكر، وأتقنت هذه المهنة جيدا، وصارت تمتلك ثلاثة فروع أخرى كبيرة لبيع الأدوات الاحتياطية للسيارات الحديثة، وأنها في وضع مادي ممتاز لأن رزقها ليس محدودا كراتب الموظف الريعي.

خرجتُ من محلّها الكبير وقلتُ لنفسي:

لم يذهب ذكاؤها سدىً، ولو أنها أكملت دراستها لأصبحت مثلي موظفا ريعيا ذا راتب محدود أو كما يُقال عبداً من عبيد الدولة مرهون بعملي الوظيفي الحكومي الرتيب، فالإنسان الذكي يمكن أن يوظّف ذكاءه في الدراسة أو سواها، ومن حسن حظها أنها استخدمت ذكاءها في القطاع الخاص وأفلتت من قبضة الدولة الريعية، وكما يُقال (ربَّ ضارة نافعة).

اضف تعليق