q
هذا المشهد رأيته بعيني، والكلمات سمعتها بأذني، أهل الخير لا يزالون حاضرين، ومد يد العون للأيتام والمحتاجين في حالة تصاعد، فعليكم بالسخاء، كي تكونوا من أحباب الله وتتضاعف أرزاقكم وأموالكم، ولا علاقة للسنّ بالسخاء، فلتصبح مثل هذه المشاهد التكافلية ثقافة اجتماعية يتربى عليها أطفالنا وشبابنا حتى نكون مجتمعا تعاونيا بامتياز...

بعد أن أنجزتُ زيارات عمل مهمة لبعض الدوائر والمنظمات، عدتُ إلى مدينتي من العاصمة، لا زلت في أول الطريق حين لمحت فرنا كبيرا على الجهة اليمين، ركنتُ سيارتي على جانب الطريق وخطوتُ باتجاه الفرن، بدا كبيرا لدرجة أن العاملين فيه فاقوا عشرين شابا، كانوا في حركة نشيطة منتظمة كأنهم خلية نحل، منتجات هذا الفرن لا تقتصر على الخبز، بل هناك أنواع عديدة من المعجّنات معروضة بكميات كبيرة.

رأيتُ عددا من الناس يبتاعون أنواعا مختلفة مما يعرضه هذا الفرن، فهناك الكعك المطعّم بالسمسم، والخبز، وأنواع مختلفة من (الصمون)، وأشكال عديدة من الكيك الدائري والمربع والمثلث، خمنتُ أن طعم هذه المعجنات من النوع المتميز، فقد كان الناس رجال ونساء يتقاطرون على الفرن ويشترون كميات كبيرة من منتجاته.

أمضيتُ ربع ساعة أتطلّع في الأنواع المعروضة، وبين حين وآخر أنقل بصري إلى داخل الفرن، حيث خلية النحل تواصل عملها بدأب، كان هناك شاب وسيم تبدو عليه ملامح العافية، يتحرك بين العمال وكانت الابتسامة تعلو ثغره، كان يشجع العمال ويثني عليهم، ويسألهم عمّا ينقصهم من الشراب والطعام وغيرهما، وحين سألت عنه ومن يكون، عرفتُ بأنه مالك هذا الفرن الكبير، فخطر في بالي سؤال ربما لم يكن في محله!!

هذا الشاب الوسيم الذي يمتلك الفرن لا يزال في مقتبل العمر، فمن أين جاء بالأموال اللازمة لامتلاك مثل هذا الفرن، لاسيما أن أباه توفّي وهو لا يزال طفلا، ورحت تحت دافع الفضول أسأل أحد العمال وهو المشرف على بيع منتجات الفرن واستلام النقود، عن الشاب الذي يمتلك الفرن، كيف استطاع امتلاك مثل هذا الفرن الكبير وهو لا يزال في بداية رحلته بالحياة، كما أنه من عائلة ليست غنية وأب متوفى ولم يترك لعائلته شيئا يُذكر.

لم ينزعج العامل من كثرة أسئلتي، كان يجيبني بسلاسة وودّ، وكان صبورا على إلحاحي بالأسئلة الكثيرة عن مالك الفرن، وحين يئس العامل من توقّف أسئلتي مدّ يده وأشار لي على لوحة تمّ تعليقها خارج الفرن في الواجهة الخارجية حتى يراها جميع الناس، تقرّبت من اللوحة وقرأت الكلمات المكتوبة فيها: (أخي إنْ كنتَ لا تملك المال فلا تنحرج، خذ لعائلتك ما تحتاج، ورزقك و رزقي على الله.....).

سألت عامل البيع:

- من كتب هذه اللوحة؟

فأجاب:

- كتبها صاحب الفرن بخط يدهِ.

سألته مجددا:

- هل فعلا تعطون المحتاجين بلا مقابل، وكم أعدادهم؟

أجابني:

- نعم هناك عائلات متعففة تحتاج إلى الخبز، يأتون يوميا ويأخذون ما يحتاجونه دونما حرج أو خجل.

وأضاف عامل البيع:

- أنا أعمل في هذا الفرن منذ سنوات، وعلاقتي بمالك الفرن قديمة، أنا صديقه الأقرب، وذراعه الأيمن، وقد عشت قريبا من صديقي صاحب الفرن سنوات طويلة، تربط بيننا علاقات عائلية وصداقة أخوية نقية، تعلمتُ من صديقي الصدق في التعامل، وحسن الأخلاق، والرحمة، والسخاء، وكثيرا ما سمعت صديقي وهو يردد (السخي حبيب الله)، لذلك كان ولا يزال رغم كونه شابا، ساعيا لفعل الخير، عارضا المساعدة على من يحتاجها، ليس الخبز وحده، بل يقدم كل أنواع المساعدة، هناك أيتام يأتون إلينا هنا كي يستلموا مصروفا أسبوعيا وهذا سجل بأسماء الأيتام (قدم لي السجل وطلب مني الإطلاع على أعداد الأيتام، فكل يتيم مخصص له حقل يضم مقدار مبلغ المساعدة وتاريخ استلامها).

واصل عامل البيع كلامه:

- أقسم لك أن خير هذا الشاب يتضاعف كلّما كان سخيا أكثر، غيره يكنزون الأموال ولا يجرؤون على مساعدة المحتاجين، لكن لو قارنت بين ما يحصل عليه صديقي صاحب الفرن من رزق وفير، لا يحصل عليه أقرانه الآخرون الذين لا يفكرون بالناس الفقراء، وأصبحتُ على يقين وثقة أن الإنسان كلّما كان سخيا مساعدا للمحتاجين، يضاعف الله من رزقه وخيراته.

وقبل أن أغادر الفرن وأواصل طريق عودتي إلى مدينتي، رأيت امرأة كبيرة السن تقترب من عامل البيع وتسلم عليه، فنهض من مكانه مرحبا بها، وفي لحظات استلمت حصتها من الخبز دون تأخير، ولاحظت أنها لم تعطِ نقودا للعامل مقابل الخبز، أخذت حصتها بعد أن حيّاها مالك الفرن بابتسامته العفوية، واقترب منها وتكلم معها بصوت خفيض، يمكنك أن تأخذي المزيد.... لكنها شكرته وقبّلته على جبينه، ورفعت يديها نحو السماء ودعت له دعاءً نقيا صادقا بأن يرزقه الله ويوفقه.

هذا المشهد رأيته بعيني، والكلمات سمعتها بأذني، أهل الخير لا يزالون حاضرين، ومد يد العون للأيتام والمحتاجين في حالة تصاعد، فعليكم بالسخاء، كي تكونوا من أحباب الله وتتضاعف أرزاقكم وأموالكم، ولا علاقة للسنّ بالسخاء، فلتصبح مثل هذه المشاهد التكافلية ثقافة اجتماعية يتربى عليها أطفالنا وشبابنا حتى نكون مجتمعا تعاونيا بامتياز.

اضف تعليق