q
متى يتم الإصلاح، وكيف سيتم تفتيت منظومة الفساد، وما دور الناخب العراقي في هذا المجال، إنه سؤال نفكر به كثيرا، ونطرحه على أنفسنا كثيرا، والمناضلون، أولئك الذين خاضوا صراعا مع الحكام الجبابرة، هم أكثر الناس تمسكاً بهذا الهدف، الذي يقترب كثيرا من الحلم...

بعد الرحلة التي قطعتها العملية السياسية في العراق، والتي استغرقت ما يدنو من عقدٍ ونصف، بات واضحا أن المشاركين في هذه العملية لم يتمكنوا من الانتقال بالعراق وشعبه من حقبة الدكتاتورية، إلى حقبة جديدة ذات وجه آخر مختلف كل الاختلاف عن سياسات القمع والتخلف الاقتصادي، وضمور الحريات، وتبعية الإعلام، فيما ظلّ الشعب بانتظار أن يعوضه معارضو الدكتاتورية عن الحرمان والقمع وفقدان الحريات والحقوق.

وكان لا يزال العراقيون يتساءلون متى تثبت الطبقة السياسية الجديدة التي أعقبت الأنساق الدكتاتورية، بأنها جاءت كي تغيّر أحوال العراقيين، وثمة سؤال ظلّ يردده الجميع، مفاده ماذا يحتاج العراق الآن؟، وهو سؤال قد يبدو معتادا، مكرّرا، يطرقُ أسماعنا كثيرا، ولكنه على الرغم من كل ذلك، يبقى السؤال الأهم، لاسيما إذا وضعنا في حساباتنا الهدف الأسمى، وهو بناء العراق كدولة ذات طابع مدني، بنظام سياسي لا مركزي تعددي، دستوري، قادر على حماية حقوق وحريات المواطنين العراقيين مغاير للحقبة التي أذاقت الشعب الأمرّين، فتدنّت مستويات العيش في جميع المجالات.

وظل الأمل قائما بالسياسيين الجدد، كونهم أعلنوا عن أنفسهم بأنهم مناضلون معارضون، جاءوا لكي يغيروا كل شيء سيّئ إلى نقيضه، وبقيَ الهدف الأول والأخير هو بناء دولة من طراز مدني، تمتلك مواصفات الدولة التي لا تعيد العراقيين إلى الوراء، إلى أزمنة الظلم والقمع والفساد والطغيان، لاسيما أن العراقيين قد جرّبوا أنظمة سياسية وحكومات عديدة تنطلق من مضامين فكرية سياسية ثقافية مختلفة، ولكن الغريب حقا أن جميع الحكومات التي حكمت العراقيين بعد الانتقال من الحقبة القمعية إلى نقيضها ظلت تلتقي في هدف واحد، هو البحث عن الامتيازات مقابل إهدار كرامة وحقوق المواطن العراقي، فلا بنوا دولة مغايرة للحقبة العسكرية، ولا تمكنوا من إثبات نواياهم الخالصة تجاه الشعب.

ومما ساعد العراقيين على متابعة قادته، شخصيات وأحزاب وكتل سياسية، ما أتاحته لهم وسائل الإعلام والسوشال ميديا من الإطلاع على كل شاردة وواردة مما يقوم به قادتهم، ولعله من محاسن الحقبة الجديدة انفتاح العراق على العالم، بعد أن باتت منظومة الاتصال الإعلامية متعددة القنوات والنوافذ مفتوحة، تتيح للشعب الإطلاع على ما يجري في العالم، وعلى تجارب الأمم والشعوب وعلى أنظمتها السياسية وعلى طبيعة العيش الذي تتحلى به، فلم يعد من السهل غلق عيون هذا الشعب، أو محاصرة العقول، أو عزلها عن رؤية المحاسن التي تتمتع بها الشعوب والأمم في ظل أنظمة سياسية يحكمها صوت الشعب ورأيه وليس العكس، حتى باتت الديمقراطية، والمنهج التعددي اللامركزي مطلبا شعبا حتى لأدنى مستويات الوعي.

محاصرة الفاسدين وكشف أساليبهم

لذلك حوصرَ الفاسدون وباتت أساليبهم مفضوحة، إذ لم يعد ثمة مجال أمام الفساد وأصحابه مهما بذلوا من جهود لتدجين الشعب ومحاولة تطويعه، والحجر عليه ثانية في العزلة التي أقامتها عليه الأنظمة الفاسدة التي باتت في خبر كان، وصار جليا أن لا مجال لإعادة العراقيين الى الوراء، حيث عهود الفساد والقهر السياسي والطبقي، نعم يوجد من يريد تخريب مؤسسات الدولة، وهناك كثيرون يخططون ويسعون لتخريب البنى الأساسية التي تقوم عليها الدولة العراقية المدنية، ومن الواضح جدا للشعب وللمراقبين ما يقوم به المفسدون وما يبذله الفاسدون من جهود استثنائية لتدمير الدولة وإخضاع الشعب لرغباتهم وأهدافهم، ولكن هذا لن يدوم الى الأبد، خاصة أننا كعراقيين فتحنا أعيينا، وصرنا نفهم ما يجري بوضوح على الرغم من حالات التمويه الكثيرة التي يحاول الفاسدون من خلالها خلط الأوراق، حتى يبدو وكأنهم هم رعاة الدولة، وهم أنصار الفقراء، وهم الذين يتقدمون الركب للمحافظة على الدولة والسعي لبنائها، لكن كل هذه المحاولات لم تعد تنفعهم بشيء، حتى باتت أساليبهم معروفة، وقد تبيّن ذلك من تذمر الشعب والناخبين من أساليب الحملات الانتخابية التي يقوم بها بعض المرشحين في محاولة لاستغفال الناس لكسب تأييدهم وأصواتهم.

وقد بلغ الناس مستوى لا يستهان به من الوعي والمراقبة والحرص على فضح من يسعى لإلحاق الأذى بهم خصوصا من الساسة، لذا فإن ما يجري في الساحة العراقية بات من الوضوح، بحيث حتى أدنى الناس وعيا يفهم ما يجري في البلاد، ويعرف من هي الجهات التي تريد أن تبني الدولة ومن الجهات التي تسعى لتدميرها، لم يعد هذا الأمر خافيا او غامضا، ولم تعد تنجح ألاعيب الجهات والشخصيات التي تسعى لإعادة عجلة الزمن الى الوراء، لذا من الأفضل أن نتكاتف كي نبني الدولة بما يحقق العدالة الاجتماعية ويحمي الحقوق والحريات ويدعم النظام الدستوري الاستشاري التعددي، وهذه فرصتنا وينبغي أن لا نفرط بها، وهذه الفرصة الجميع معني باستغلالها بقوة، خصوصا أننا على ابواب دورة انتخابية نيابية اذا أحسن الناخب العراقي استخدامه لصوته فإن فرصة بناء الدولة ومؤسساتها لا تزال تحت اليد.

كما أن العراقيين باتوا ممن يمتلك التجربة الكافية لمعرفة النظام السياسي الذي ينفعهم ويحقق أهدافهم في الحرية والأمن والتطور، خصوصا أنهم جربوا أنظمة سياسية مختلفة، أنتجتها حواضن فكرية وانتماءات مختلفة، ولهذا صار الناس يفهمون من دون لبس، من يعمل لصالح الشعب والدولة، ومن هو عدو لهما، إن عمليات الفساد لا يمكن أن تُغطّى بأقوال أو أفعال غير صادقة، لسبب بسيط، أن الفعل الصحيح يُثمر عن نتائج صحيحة، والسؤال المهم هنا، اذا كان من يدّعي الحرص على بناء الدولة والنظام السياسي اللائق، صادقا في توجهاته، علما أنها توجهات الشعب وأهدافه، فلماذا فشل المتصدون للعملية السياسية في القضاء على الفساد، ولماذا لم يستطع هؤلاء رغم قدراتهم من نشر الإصلاح، وفرض هيبة القانون والدولة على الجميع؟، بالطبع هنالك معوقات منها أن الإرهاب يضرب الدولة ومؤسساتها ويستهدف الشعب وممتلكاته وحياته برمتها، هذا أمر صحيح وواقع، وسوف يُقال أن هناك أنظمة ودول تتدخل في شؤون العراق وتكبّل أيدي المعنيين ولا تسمح لهم ببناء الدولة المدنية، وهناك كما يُقال من يسعى لإفشال النظام السياسي القائم في العراق، كل هذه الأسباب تنطلق من الواقع، وهي ليست أسباب مفتعلة، ولكن لو أن الطبقة السياسية وكل من يهمه أمر العراق، يعملون بجد وصدق وحرص وتحت قوة الدستور والنظام والقانون، ألم نكن قادرين على دحر كل تلك الأسباب القادمة من خارج العراق؟ أو من داخله، ولنفترض أن الذي جرى في العراق بعد نيسان 2003 كان أقوى من إرادة الطبقة السياسية وإمكاناتها، ولكن ما هي أسباب عدم الاستفادة من الوقت الذي يجري من بين أصابعنا وعيوننا وعقولنا من دون أن نعيره اهتماما، واقصد هنا كل الجهات والشخصيات والأحزاب والكتل التي اشتركت في إدارة السلطة والعملية السياسية في العراق، ثم لماذا يصر الساسة على إضاعة الفرصة تلو الأخرى، ولماذا ينظر ساسة من داخل الطبقة السياسية للعراق على أنه كعكة يجب أن يحصل على حصته منها، وإذا لم يحصل على ما يريد فإنه يعيث فسادا في هذا البلد، ويصر على إلحاق الأذى بالشعب، حتى باتت مفردة الفساد والحصول على الأموال بأية طريقة كانت أمرا مشروعا بل تحولت إلى نهج اجتماعي مقبول، وبات المنهج المعاكس له غير مستساغ، ويكون المتبع له محط تندّر وسخرية الآخرين!.

ماذا بعد زوال الأنظمة القمعية؟

مما يثير حالة الاستهجان والرفض الشعبي العارم، أن هذا المنطق أساء لكثير ممن يعملون في السياسة ويدخلون ضمن العمل السياسي، فمع كل ما يتحلون به من قدرات ومؤهلات وسمعة طيبة ورجاحة عقل، إلا أنهم لم يبذلوا ما في وسعهم، لتحقيق الأهداف الصحيحة التي ينبغي أن يتم تحقيقها بعد زوال الأنظمة الدكتاتورية التي دمرت العراق وشعبه، ومثل هذه الفرص قد لا تأتي دائما، فحريّ بمن يعمل في السياسة، على الأقل الشخصيات والجهات التي يثق بها الشعب، أن يستثمروا الفرصة لنشر الإصلاح وكبح الفساد والسعي المستمر في بناء الدولة النموذجية.

في الخلاصة يبقى السؤال قائما، متى يتم الإصلاح، وكيف سيتم تفتيت منظومة الفساد، وما دور الناخب العراقي في هذا المجال، إنه سؤال نفكر به كثيرا، ونطرحه على أنفسنا كثيرا، والمناضلون، أولئك الذين خاضوا صراعا مع الحكام الجبابرة، هم أكثر الناس تمسكاً بهذا الهدف، الذي يقترب كثيرا من الحلم، المناضلون الذين واجهوا أكثر الأنظمة السياسية تعسفا وظلما، لطالما تمسكوا بتحقيق حلم الدولة القوية المستقرة القادرة على حماية حقوق شعبها، من خلال تعميق مبادئ العدل وخاصة مبدأ العدالة الاجتماعية، ولكن هنالك مبادئ وخطوات مدروسة هي التي تقود الى تعضيد الدولة وجعلها قابلة لما نرغب، ومقاربة لما نحلم به، ولعل أول هذه الخطوات هو نشر الإصلاح ومقارعة الفساد والفاسدين والمفسدين، فالدواء الناجح للفساد هو الإصلاح، وهذا الهدف الأخير، لن يتمكن من تحقيقه غير الأباة الأفذاذ الصادقين في أقوالهم وأعمالهم ونواياهم، وما دورة الانتخابات الجديدة سوى فرصة نموذجية للعراقيين أجمع، وللناخبين على وجه الخصوص، لكي يحققوا ما انتظروه أجيالا متعاقبة، وهو بناء الدولة القادرة على إقامة العدالة الاجتماعية، وتعويض العراقيين عما لحق بهم من ضياع للحقوق ومن حرمان على المستويات السياسية والثقافية والمعيشية أيضا.

اضف تعليق