q
إذا كان هذا الموظف، او ذاك المدير، او ذاك الوزير، وحتى الرئيس، يبررون لأنفسهم الوسائل لتحقيق ما يريدون، فان السبب في ذلك يعود الى تمرسهم في هذا الغيّ عندما كانوا أفراداً عاديين في المجتمع، وإن لم يكونوا كذلك، فان الكذب والسرقة والدجل والخذلان وسائر الرذائل...

عندما نسمع المقولة المنسوبة الى المستشار الايطالي؛ نيكولو ميكافيلّي (1469- 1527)، وهو ينصح الحكّام بأن "الغاية تبرر الوسيلة"، ترتسم في اذهاننا صورة الحاكم الذي أراد له الاخير أن يكون، فالقضية تتعلق بالسياسة والحكم، وكذا الحال؛ عندما نسمع ونقرأ عن سيرة أمير المؤمنين، عليه السلام، تتوجه أنظارنا الى الحاكم، لاسيما في الوقت الحاضر، حيث سنحت الفرصة لمن يعدون انفسهم من الموالين لأمير المؤمنين، لأن يجربوا الحكم والقيادة السياسية بعد قرون من العيش في ظل حكام على النقيض من منهجه، عليه السلام، علماً أن "الفكرة الميكافيلية" لها سبقٌ في التاريخ الاسلامي عندما ابتدعها أول مرة؛ معاوية، وهو يسعى بكل الوسائل للاحتفاظ بإمارة الشام التي منحها إياه عمر، ثم مواجهة الامام علي وتعميم سياسته "الغاية تبرر الوسيلة" في حياة الامة بأسرها بعد أن يصل الى قمة السلطة والحكم.

وقبل أن يكون الامام علي حاكماً وخليفة بخمسة وعشرين سنة، وتحديداً في الايام الاولى من الانقلاب على الشرعية والتنصّل عن بيعة الغدير واستبدالها بسقيفة بني ساعدة، فانه عزم على ترسيخ مبدأ "الغاية لا تبرر الوسيلة" عندما رفض استخدام كل الوسائل لاستعادة حقّه في الحكم، ورضي لنفسه أن يكون "مواطناً عادياً"، مع العلم أنه الإمام المفروض الطاعة على المسلمين من بعد النبي الأكرم، وعندما أبلغه النبي بما يجري من بعده من نكول وخذلان، أجاب علي، عليه السلام: " في سلامة من ديني"؟ فقال له رسول الله: في سلامة من دينك، قال، عليه السلام: يارسول الله اذا سلم لي ديني فيما يسؤوني ذلك".

فما كان الامام علي يقصد بالدين؟ هل هي الصلوات في المساجد وصوم شهر رمضان، وأداء مناسك الحج، وجمع الحقوق الشرعية من خمس وزكاة، وحتى المضي قدماً نحو سوح الجهاد؟! فكل هذا فعله الحكام من بعده طيلة اربعة عشر قرناً من الزمن، بيد أن الدين الذي يتطلع اليه علي، هو الدين الذي لا يشبه دين الكنيسة، حيث الطقوس العبادية والمظاهر السطحية في حياة الشعوب المسيحية منذ القرون الخوالي والى اليوم، وإنما الدين الذي يكون فيه أبسط انسان في الامة، كأن يكون بائع على الرصيف، او عتالاً في الاسواق، ومروراً بعامة الناس، من كسبة ومهنيين وعلماء، وحتى المسؤولين في الدولة، جميعهم يضعون نصب أعينهم مبدأ "لا أطلب النصر بالجور"، والحديث الشريف: "لا يطاع الله من حيث يعصى".

وفي "مجتمع اسلامي" مثل المجتمع العراقي في الوقت الحاضر، حيث تسوده قيم ومبادئ وأجواء لم يعهدها من قبل ربما في تاريخه الحديث، يجد البعض أنهم محقّون في كثير مما يقومون به، تحت عناوين ومبررات عدّة، فيلجأ الى اتباع اساليب لتحقيق ما يصبو اليه، وانجاز أعماله التي ربما تكون حقّاً مشروعاً له، او تكون مرتبطة بالصالح العام. كأن يكون ضمن مشروع ثقافي، او مؤسسة خيرية، او حتى هيئة حسينية. فلا أحد من هؤلاء وغيرهم، له حقٌ اكثر جلاءً ومشروعية من حق الامام علي في الحكم من بعد رسول الله، صلى الله عليه وآله، ولكن؛ مع ذلك، "لم يطلب النصر بالجور"، فقد التزم بهذا المبدأ كشعار في حياته السياسية والاجتماعية منذ تلك الساعات العصيبة وحتى اصبح الحاكم الرسمي في الامة.

إن الكثيرين يتحدثون عن اهدافهم المشروعة ونواياهم الطيبة ومشاعرهم النبيلة، وعندما يقفون على مفترق طرق؛ بين الوسيلة الشرعية التي يرضاها الله –تعالى- لتطبيق كل ذلك على ارض الواقع، وبين الوسيلة غير الشرعية التي ربما تلحق الضرر بمشاعر الناس وبمصالحهم وسمعتهم، بشكل أو بآخر، يكون الاختبار العسير بين التفكير بالذات وما تريد وتحب، وبين التفكير بالقيم التي يفترض ان تسود بصورة ناصعة وبمصاديق عملية.

فاذا كان هذا الموظف، او ذاك المدير، او ذاك الوزير، وحتى الرئيس، يبررون لانفسهم الوسائل لتحقيق مايريدون، فان السبب في ذلك يعود الى تمرسهم في هذا الغيّ عندما كانوا أفراداً عاديين في المجتمع، وإن لم يكونوا كذلك، فان الكذب والسرقة والدجل والخذلان وسائر الرذائل، لم تكن مما يثير الحساسية والتنفر في نفوسهم، او ربما يعيشونها في محيطهم الاجتماعي دون ان يكون لهم موقف إزاءها.

اضف تعليق