q
أخطر ما تواجهه كل أمة هو خطر التحدي الثقافي، فإذا نجح هذا التحدي في تحقيق أهدافه وغاياته، فإنه يسلب الأمة هويتها، وتكون أمةً بلا هوية وشخصية وكيان، وأحياناً يعطي التحدي الثقافي إذا نجح في أهدافه وغايتاه للأمة هويةَ أمةٍ أخرى، تكون تابعة لتلك الأمة وتفقد...

إن أخطر ما تواجهه كل أمة هو خطر التحدي الثقافي، فإذا نجح هذا التحدي في تحقيق أهدافه وغاياته، فإنه يسلب الأمة هويتها، وتكون أمةً بلا هوية وشخصية وكيان، وأحياناً يعطي التحدي الثقافي إذا نجح في أهدافه وغايتاه للأمة هويةَ أمةٍ أخرى، تكون تابعة لتلك الأمة وتفقد استقلالها، وتكون مستعبَدةً من داخلها؛ فتارةً يكون الاستعباد خارجياً، حيث تستعبد أمةٌ لأخرى وتهيمن على بلادها، هذه الهيمنة يمكن أن تنتهي في يوم ما، كما ان هنالك قاعدة تقول: (أن القسر لا يدوم)، بل إنَّ الضغط أساساً لا يمكن له الاستمرار، ومثال ذلك: الحجر الذي يُرمى الى الأعلى، فما دام هنالك ضغط وراءه فإنَّ الحجر سيعود إلى طبيعته الأولى وينجذب إلى الأسفل بمجرَّد انتهاء الضغط عنه.

لكن إذا استُعبِدتْ أُمة من داخلها، أي أصبحت العبودية طبيعتها وفكرها، سيكون من الصعب جداً نجاة هكذا أمة من هذه الحالة، إلا أن تتغير تلك الحالة من الأساس.

في إحدى البلاد أعلن شخص هناك عن تحرير العبيد، ورغم أن الحرية هي أفضل ما يُقدَّم للعبد الذي لا يقدر على شيء، ولكن مجموعة من هؤلاء العبيد تظاهروا في الشوارع معلنين رفضهم هذه الحرية، والسبب هو أن العبودية تحولت إلى فكر لديهم، فهم مُستعبَدون من الداخل، وهذا ما يفعله المستعمرون في بلادنا منذ اليوم الأول لاستعمارهم هذه البلاد، فالمدارس الأجنبية – مثلاً- كان هدفها منذ اليوم الأول هو أن تجعل الطالب إما أن ينقلع من جذوره وتاريخه وتراثه في بلده، أو أن يرتبط بفكر وتراث وحضارة أخرى، وهنا تكمن خطورة التحدي الثقافي الذي تواجهه الأمم، فإما أنه يسلبها هويتها وإما أن يفرض عليها هويةً ثانية، وهو الأخطر.

نعيش جميعاً اليوم تحدياً ثقافياً قوياً، وقد شمل كل زوايا حياتنا، حتى داخل غرفنا وبيوتنا، ووراء هذا التحدي قوى عالمية تملك إمكانات لم يوجد لها نظير على مر التاريخ، و لعله لم يسبق أن توفرت هكذا قدرات ضخمة على التأثير لحضارة على مر التاريخ، لكن كيف يمكن مواجهة هذا التحدي؟ هنالك ثلاثة طرق لتحقيق ذلك:

الطريق الأول: القمع والحصار

وهو أن تتم مواجهة التحدي الثقافي بقطع كل ارتباط واتصال، وإيجاد سور حول الأفكار، وهو الطريق الذي جربته قوى متعددة، لكنها فشلت في ذلك، لذا يقول بعض العلماء: إنَّ الفكر مثل الماء، فحتى وإن كان البيت محصَّناً، لكن إذا تسور حوله الماء فانه سيدور حتى يجد منفذاً إلى داخل البيت، وهذه طبيعة الفكر، إذ لا يمكن محاصرته، فقد عشنا تجربة الإتحاد السوفيتي وكانت دولة عظمى و مزوّدة بكل الإمكانات والقدرات، وكانت في يوم ما تهدد العالم بالحرب الذرية أو النووية، ثم صنعوا ستاراً حديدياً لهذه الدولة، حيث كان كل شيء ممنوعاً، واستمر هذا الستار الحديدي عشرات الأعوام، لكن مصيره كان الانهيار، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، والتجربة الأقرب عندنا هي تجربة نظام الحكم السابق في العراق، فقد حارب الدين والفكر الديني بشدة، حتى في بعض الأحيان كانوا يحكمون بالإعدام على من يوجد كتاب ديني في بيته، وقتلوا وشرّدوا وسجنوا الكثير من الناس، لكنه انهار وبقي الدين والفكر، إذن فهذا الطريق غير ناجح.

الطريق الثاني: التعبئة والشعارات

وهو إتِّباع أسلوب التعبئة الجماهيرية وإطلاق الشعارات، لكن هذا الطريق هو الآخر لن تكون له استمرارية، فربما تخلق التعبئة والشعارات فورة وعواطف مؤقتة، لكن هذه العاطفة المؤقتة ستنتهي يوماً ما.

الطريق الثالث: صنع البديل

إذا صنعنا البديل الصحيح، بإمكاننا مواجهة التحدي الثقافي.

لقد عاش الإمام الباقر (صلوات الله عليه) في ظروف تحديات فكرية كبرى، وهذا ما يؤكده بعض المؤرّخين حيث يقولون بأنَّ الإمام الباقر (صلوات الله عليه) عاش أشد الظروف حساسيةً ودقةً، وشكلت تلك الظروف عدة حالات من التحدي الثقافي:

الحالة الأولى؛ تمثلت في الاختلاط بين الثقافات والشعوب، كما شهدت الفتوحات الإسلامية توسَّعاً، لكن لم تكن على أساس تخطيط مسبق، وهو ما يشكل خطراً على تلك الأمة المتوسعة؛ فالمسلمون اختلطوا بشكل عميق بالمسيحيين وأيضاً بالثقافة الهندية الكافرة، وكان معهم ثلاث مشاكل وثغرات:

1- افتقار الحكام آنذاك للقدرات العلمية والفكرية التي تؤهلهم لمواجهة التحدي الثقافي، بل لم يكونوا في هذه الأجواء، وينقل عن ذلك الرجل (...) قوله: (ألهاني الصفق في الأسواق)[1]! حيث كانوا يأتون بالحاكم من السوق!

2- عدم اهتمامهم بهذه القضية، إذ لم يكن عندهم مهماً انحرافُ مجموعة من المسلمين.

3- وجود التواطؤ والتآمر من الداخل مع هذه الحملة، واستناداً لبعض القرائن التاريخية الدالة على ذلك، فقد كان هنالك شخص يُدعى يوحنا المسيحي، وهو من الذين كان لهم دور كبير في محاولة تفتيت الأمة الإسلامية، فكان يطرح الشبهات على المسلمين، وألَّف كتاباً في الرد على المسلمين، والعجيب أن المؤرخين يذكرون أنه كان مُقرَّباً إلى البلاط الأموي، إضافة إلى إنَّ الحضارة الهندية، والقسم الكافر منها، كانت لها مجموعة من الأفكار والعقائد، وكذلك الحال عند الثقافة اليونانية، التي كانت تحمل ثقافة كاملة، ونظرة كاملة إلى الكون والحياة، وشيئاً فشيئاً انتشرت تلك الأفكار في البلاد الإسلامية، فإذا لم تكن للأمة الحصانة الثقافية، فإنها تنتهي مهما كانت قوية، وهناك أمثلة من حضارات كانت فاتحة لكنها انتهت بسبب عجزها عن مواجهة الفكر المقابل، ومن ذلك المغول، حيث كانوا يشكلون حضارة غزوا بها البلاد الإسلامية وأسقطوها، ولكن حضارة المغول لم تتمكن من مواجهة تحدي الفكر الإسلامي، فانهارت وانتهت، حتى أصبح أولاد المغول مسلمين.

الحالة الثانية: تمثلت في التحدي الفكري الداخلي، ونشأ من عدم أخذ الأمة فكرها ودينها وثقافتها من الطريق والأبواب التي عيَّنها الله سبحانه وتعالى، فهل يمكن للإنسان أن يصل الى الله سبحانه وتعالى من غير الطريق الذي عيَّنه له الله؟! الجواب: هو النفي؛ فإبليس قال لله سبحانه وتعالى: أنا أعبدك ستة آلاف عام –حسب الرواية- لكن الله قال له: إني أحب أن أُعبد من حيث أريد لا من حيث تريد؛ أنا أريد منك أن تعبدني بالسجود لآدم، فهو الباب الذي جعلته للعبادة، فقال إبليس: كلا...! لا أريد الدخول من هذا الباب، وإنما من باب آخر، فرفض الله سبحانه وتعالى.

أحد الأنبياء كان يذهب لمناجاة الله سبحانه وتعالى فرآه الشيطان في الطريق فقال لذلك النبي: أريد أن أصلح حالي مع الله سبحانه وتعالى، وأتوب إليه، وأنهي تلك القضية والمشكلة، وأنا مستعد لأنفذ ما يقوله الله، فذهب ذلك النبي ونقل لله سبحانه وتعالى كلام الشيطان، قال الله سبحانه وتعالى: أقبل توبة الشيطان بشرط واحد وهو أن يذهب إلى قبر آدم ويسجد هناك، فعاد النبي ورأى الشيطان في طريقه، فسأله عن الجواب؟ قال: الجواب؛ أن الله يقول: أنا أقبل لكن بشرط واحد، هو أن تذهب وتسجد عند قبر آدم، ففكر الشيطان قليلاً وقال: أنا لم أسجد له في حياته، فكيف أسجد له بعد مماته[2]؟!

وهناك في الفقه بحثٌ حول (لهُ) بين أن تكون بمعنى لهُ هو أو بمعنى قبلةً، لا مجال للحديث حول ذلك.

الله سبحانه وتعالى عيَّن الباب الذي يؤتى منه إليه، وهو النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وهو الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، وهم أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، لكن الأمة - ولا أقول كل الأمة- رفضت ذلك، حتى النبي الأعظم أيضاً رفضوه، وكان منطقهم (حسبنا كتاب الله)[3]، في حين هذا الكلام بالحقيقة هو ضد كتاب الله، لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: (لتبيّن للناس ما نُزِّل إليهم)[4]، والنبي مُبيِّن للكتاب، كما ان الله سبحانه وتعالى يقول: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)[5]، وجاء في (الذهبي)، أيضاً في (تذكرة الحُفاظ) المجلد الأول، صفحة/2 يقول: (قال الأول: فلا تحدِّثوا عن رسول الله شيئاً فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلُّوا حلاله وحرِّموا حرامه)! أي لا حاجة لنا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) بعد كتاب الله، وهنا يقع الأول في تناقض بكلامه مع عمله، إذ عندما أراد أخذ فدك استدل بذلك الحديث المزعوم حيث قال: سمعتُ رسول الله يقول: (إنا معاشر الأنبياء لا نوِّرث)[6]، ولم يقل: حسبنا كتاب الله!، وجاء أيضاً في (تذكرة الحفاظ) في المجلد الأول صفحة/7 يقول عن الثاني: (أقِّلوا الرواية عن رسول الله وأنا شريككم)، أي أنا أيضاً لا انقل كثيراً عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وفي نفس الكتاب صفحة/7 ينقل عن معاوية قوله: (عليكم من الحديث بما كان في عهد الثاني فإنه كان قد أخاف الناس في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله)، فالنهي لم يكن من خلال القوة التشريعية فقط، وإنما من خلال القوة التشريعية والتنفيذية معاً، وعن هذا الموقف كُتب الكثير في منع تدوين الحديث، وكما يبدو فإن أهم هدفٍ وراء ذلك هو إلغاء دور أهل البيت (صلوات الله عليه)، فيما تحفل أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) بالإشادة بأهل البيت، وقد استمر منع تدوين الحديث لأعوام طويلة، فضلاً عن أن الكثير من الأحاديث ضاعت خلال تلك المدة الطويلة.

من هنا فان الذين عاشوا في عهد الإمام الباقر (صلوات الله عليه) أرادوا فهم الدين وطرحه بعيداً عن أهل البيت (صلوات الله عليهم)، ولذلك نشأ هنالك تخبط عجيب، وهو ما يمكن ملاحظته من كتب المتكلِّمين، ومنها (شرح التجريد)، وغيره من الكتب العقائدية والكلامية والفقهية، وقد ابتليت الأمة الإسلامية بهذا التخبط في جميع المجالات.

جاء رجل إلى الإمام الباقر (صلوات الله عليه) وقال له: ما تقول في المسح على الخُفّين، فقال (صلوات الله عليه): كان أمير المؤمنين لا يمسح على الخُفّين ويقول الإمام: لقد سبق الكتابُ المسحَ على الخُفّين[7]، والقرآن الكريم يقول: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم)[8]، والخف لا يعد رجلاً؛ هذا في المجال الفقهي، أما في المجال الفكري، فقد خاض أتباع العديد من المذاهب حالة التخبط، ويمكن مراجعة كتاب (شرح التجريد) في هذا الخصوص، فكانت هناك مشكلة القضاء والقدر والجبر والاختيار ومشكلة التفويض، وغيرها، ومن ضمن الخائضين في هذا التخبط هم الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه)، وكانت لهم امتدادات كبيرة ورموزٌ كبيرة في عهد الإمام الباقر (صلوات الله عليه)، لكن الإمام الباقر (صلوات الله عليه) وقف بوجه التحدي الثقافي الخارجي، كما وقف أيضاً في وجه التحدي الثقافي الداخلي، ويمكن مراجعة كتاب (الاحتجاج) [9] لملاحظة الكثير من مواقف الإمام الباقر (صلوات الله عليه)، الذي واجه هذين التحديين بثلاثة أشياء:

الأول: طرح البديل

الثاني: الحوار.. حيث كان الإمام (صلوات الله عليه) يحاور الآخرين، من رؤساء المذاهب والأديان الأخرى، وهذا هو منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، الذي بدأ هذا المنهج، فالذي يخاف الحوار هو الباطل وليس الحق، فقد طرح الإمام الباقر الفكر الصحيح، ثم حاور وفسح المجال للحوار مع مختلف الأديان والتوجهات، وفي التاريخ نماذج كثيرة في هذا المجال...

كان هنالك شخص يقال له (نافع الأزرق)، وكان من أعلام الخوارج، ودخل في حوار مع الإمام الباقر (صلوات الله عليه)، حول قضية التحكيم، وكان منطلقه أن الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) حكَّم في دين الله، والتحكيم في دين الله كفر؛ وفي قضية مطوَّلة مذكورة في (روضة الواعظين)، فنّد الإمام الباقر (صلوات الله عليه) قضية التحكيم لديهم، حيث قال: قل لهم – أي لجماعتك الخوارج- بِمَ استحللتم فراق أمير المؤمنين وقد سفكتم دماءكم بين يديه؟ يقولون لك: إنه حكّم في دين الله، فقل لهم: قد حكَّم الله في شريعة نبيه رجلين من خلقه، وهو ما يذكره القرآن الكريم في الآية المباركة: (فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما)[10]، أليس هذا بتحكيم بصريح الآية القرآنية؟! كما أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حكّم سعد بن معاذ في بني قريضة وجعله حكماً في قضية معروفة، أو ما علمتم أن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) إنما أمر الحكمين أن يحاجّا بالقرآن الكريم ولا يتعديّا، ولم يكن التحكيم مطلقاً، فانبهر نافع، وقال: هذا والله كلامٌ ما قرع سمعي قط ولا خطر ببالي! [11]

كما جرى حوارٌ بين الإمام (صلوات الله عليه) وقُتادة حول مشكلة التفويض، وهنالك حوار للإمام (صلوات الله عليه) مع عمر بن عبيد وكان من كبار زعماء المعتزلة، حول قضية صفات الله سبحانه وتعالى، حيث كانت تشكل عقدة في الفكر الديني آنذاك.

الثالث: تربية الأفراد الذين يمكنهم مواجهة هذا التحدي؛ وهذه كانت نقطة مهمة في حياة الإمام الباقر (صلوات الله عليه)، وهنالك رواية عجيبة ينقلها المؤرخون وهي جديرة بالملاحظة، بأن الإمام الباقر قال لابنه الإمام الصادق (صلوات الله عليهما): تكفَّل نفقة هؤلاء...)[12]، حتى لا يحتاجوا إلى التفكير في أمر المعاش، وإنما يتفرّغون لطلب العلم، ولا أتذكر في التاريخ وجود هكذا مبادرة قبل الإمام الباقر (صلوات الله عليه)، ولعله كان رائداً في هذا المجال، فقد نمّا الإمام (صلوات الله عليه) مجموعة من الفقهاء والمفكرين في مختلف الأبعاد في مجالات الفقه وعلم الكلام والتفسير، ليتمكن هؤلاء من مواجهة هذا التحدي، إذ صرف الإمام (صلوات الله عليه) وقتاً كبيراً على هؤلاء، لأنَّ تنشئةَ مجموعةٍ قادرة على هكذا مواجهة بحاجة إلى وقت وجهد كبيرين.

أحد هؤلاء التلاميذ الكبار الذين ربّاهم الإمام الباقر (صلوات الله عليه)، هو محمد بن مسلم، وكان من كبار الفقهاء، إذ لم يكن راوياً للحديث فقط، بل كان فقيهاً أيضاً، والى الآن وعلى مدى حوالي ألف وأربعمئة عام، يعكف علماؤنا على رواياته يحللّونها، كلمة كلمة، وما يكون مراده بهذه الكلمة؟ في إحدى رواياته، يقول محمد بن مسلم: سألت الإمام الباقر (صلوات الله عليه) عن ثلاثين ألف حديث، من شأنها حل مشاكل الفكر والعقيدة والفقه، لكن للأسف فان كثيراً منها، لم تصل إلينا بسبب صلاح الدين الأيوبي وأمثاله الذين قاموا بإتلاف هذه الأحاديث وإحراق هذه الثروة الضخمة.

ومن التلاميذ الآخرين، جابر بن يزيد الجعفي، وهو من الثقاة الكبار والأجلاء وقد روى عن الإمام الباقر (صلوات الله عليه) سبعين ألف حديث، لكن هذا الفقيه الكبير يعيش في ظروف يضطر فيها لأن يتظاهر بالجنون، ويُنقل عن الإمام الباقر (صلوات الله عليه) أنه كتب حرف (جيم) لثلاثة أفراد، عندما وصلت الرسالة إلى هؤلاء الثلاثة، وكان أحدهم جابر، فهم أنها تعني (الجنون)؛ إنها حقاً قضية صعبة أن يتظاهر شخص له مقام وشخصية اجتماعية وهو فقيه كبير، بالجنون ويخرج إلى الشوارع ويقوم بأعمال المجانين، فيما الأطفال – مثلاً- يركضون وراءه ويهتفون به! بعد أيام جاءت رسالة من هشام بأن: (احملوا إليّ جابر بن يزيد الجُعفي...)، وقد سأل عنه الوالي، فقال الناس: (إنه قد اختلط)، فتركه، وبعد فترة حيث انقشعت تلك الظروف الحرجة، وإذا به يأتي إلى المسجد ويقول: حدَّثني وصي الأوصياء ووارث علم الأنبياء محمد بن علي (صلوات الله علي) كذا وكذا...[13]

ومن جملة الأفراد الذين ربّاهم الإمام الباقر (صلوات الله عليه) أيضاً، هو أبان بن تغلب، وهو من ألمَع الفقهاء، وقال له الإمام الباقر يوماً: (إجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس فإني أُحبُّ أن أرى في شيعتي مثلك)[14] يبدو أن كلمة الإفتاء غير كلمة النقل والرواية، ويقول الفقهاء: إن مجموعة من كبار أصحاب الأئمة (صلوات الله عليهم) كانوا يُفتون، أي كانوا يطبقون الكبريات على صغيراتها، وفي رواية ينقلها محمد بن مسلم قال: (أما هذا نصاً فلا أعرفه ولكن سمعتُ ولكن حدثني أبو جعفر (عليه السلام)... يقول كل ما زاد في أصل الخلقة أو نقص فهو عيب...)[15] في قضية الجارية المبيعة، وذكر ذلك الشيخ الأعظم[16] في (المكاسب)، ويقول الذهبي وهو من كبار النقاد العامة والمتعصبين، عن أبان: (إنه شيعيٌ جلد لكنه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته)[17]، ويقصد بالجلد هو انه قويٌ في تشيعه؛ وهكذا... وهكذا...

لقد سجّل لنا التاريخ في ما نعهد من تلاميذ الإمام الباقر (صلوات الله عليه)، أربعمئة وإثنين وثمانين تلميذاً، في تلك الفترة المختصرة التي أُتيحت له.

الأمة بحاجة إلى علماء يقفون بوجه التحدي الثقافي، لأن العلم يقف أمام العلم، والفكر يقف أمام الفكر، وإلا فان غير العالم لن يتمكن من الوقوف أمام العالم، ولذا جاء في الروايات عن الامام الصادق (عليه السلام): (عالم أفضل من الف عابد والف زاهد) [18]، فعندما تُطرح شبهة لن يكون بمقدور العابد مواجهتها، وعصرنا الحاضر هو عصر صناعة الشبهات، حيث هناك جهات معينة عملها هو صناعة الشبهة، والشبهة تعني أنها تشبه الحق، لها مقدمة وصغرى وكبرى ونتيجة.

من هنا نحن في الواقع بحاجة إلى مئات الألوف من العلماء، وبتصوري فإنَّ العراق بحاجة إلى ربع مليون عالم، لأن كل عالم يتمكن أن يدير مئة شخص إدارة كاملة، -كمعدل- أما الشيعة في العالم والذين يعدون بمئات الملايين، فإنَّهُم يحتاجون مقابل كل مئة إنسان إلى عالم أو فقيه أو مفكر، بل ليس الشيعة فقط، وإنما كل المسلمين من يحتاجون إلى العلماء، فإذا كان عدد نفوس المسلمين حوالي ملياري نسمة في العالم، فهل عندنا من يقوم بهذه المهمة؟! بل إنَّ العالَم كله بحاجة إلى علماء، إذن؛ كم من مئات الألوف من العلماء يحتاج إليهم المجتمع لتربية هؤلاء الأفراد، لذا يجب أن تكون في كل مدينة هنالك حوزة علمية، ولا بأس أن تكون الحوزات الأم في العواصم الكبرى، ولكن إلى جانبها تكون في كل مدينة بل في كل قرية حوزة علمية أو نواة لحوزة علمية، لأن هذه الحوزة العلمية هي التي تستطيع أن تقف بوجه التحدي الثقافي.

فالأمة الإسلامية تمر اليوم في منعطف علمي خطير جداً، لذا يقولون: الحضارة الأقوى هي التي تتمكن أن تجيب على التساؤلات المطروحة، واليوم هناك الكثير من التساؤلات المطروحة في كل المجالات، من علم العقائد وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد، بل هناك شبهات وليس تساؤلات فقط، فلابد من مجيب على تلك التساؤلات والشبهات، وهذا بحاجة إلى مجموعة ضخمة من الفقهاء والعلماء والمفكرين، كلٌ في جانب، وقد كان تلاميذ الإمام الباقر (صلوات الله عليه) متنوّعين في مختلف المجالات، فأحدهم كان بارزاً في الفقه والآخر في الأصول، والآخر في التفسير، والآخر في الحديث، فكل واحد في بعد من الأبعاد، لتتمكن الأمة بإذن الله سبحانه وتعالى من مواجهة هذا التحدي الكبير.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

* من محاضرات الفقيه آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي

.................................................
[1] - نيل الاوطار: ج 3، ص 366.
[2] - بحار الانوار: ج 60، ص 280.
[3] - صحيح مسلم: ج 5، ص 76.
[4] - النحل: 44.
[5] - الحشر: 7.
[6] - بحار الانوار: ج 29، ص 63.
[7] - جواهر الكلام: ج 2، ص 233.
[8] - المائدة: 6.
[9] - لأحمد بن علي بن ابي طالب الطبرسي من علماء القرن السادس
[10] - النساء: 35.
[11] راجع: روضة الواعظين: 204.
[12]
[13] - اعيان الشيعة: ج 4، ص 54.
[14] - رجال النجاشي: ص 10.
[15] - تذكرة الفقهاء: ج 11، ص 189.
[16] - الشيخ مرتضى الانصاري.
[17] - دراسات في الحديث والمحدثين: ص 153.
[18] بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - الصفحة ٢٨

اضف تعليق