q
لم يكتفِ الإمام علي بالتسامح تجاه الآراء المخالفة له، بل كان يشجع أصحابه على إبداء آرائهم، فقد قال «لا تَكُفُّوا عَن مَقالَةٍ بِحَقٍّ، أو مَشورَةٍ بِعَدلٍ». التسامح فضيلة وقيمة مهمة من القيم والفضائل التي حثّ عليها الإسلام، وأمر أتباعه بالتخلق بالسماحة والعفو والصفح والرحمة والرأفة والرفق في القول والكلام...

الإمام علياً (عليه السلام) أرسى قيمة التسامح من خلال تعامله الإنساني الرفيع مع خصومه ومناوئيه، ومع الذين أساؤوا إليه فلم يعاقب منهم أحداً بل كان يعفو ويصفح عنهم، كما أنه لم يعاقب أحداً لأنه كان يخالفه في الرأي ولم يجبر أحداً حتى يوافقه في آرائه وأفكاره بل كان يحفظ لهم حقوقهم كاملة.

لقد رسخ الإمام علي في تعامله مع معارضيه ومخالفيه قيمة التسامح الفكري، فبالرغم من أن مناوئيه كفّروه وحرضوا الناس على حكمه، ومع ذلك لم يقاتلهم إلا عندما بدأوا القتال، وعفى عنهم عندما انتهت المعارك، بل وضمن لهم حرية الرأي والفكر والتعبير عن ذلك.

لقد أصّل الإمام علي (عليه السلام) بسيرته العملية حق (الرأي الآخر) وحق التعبير عن ذلك الرأي بأي وسيلة مشروعة، فلم يعاقب أحداً لمخالفته له في الرأي، ولم يمنع أحداً من العطاء لأنه لا يتفق معه في موقف أو في فكرة، ولم يبطش بأحد خالفه في الفكر أو المعتقد.. بل سمح لكل الآراء أن تعبر عن ذاتها.

لم يكتفِ الإمام علي (عليه السلام) بالتسامح تجاه الآراء المخالفة له، بل كان يشجع أصحابه على إبداء آرائهم، فقد قال (عليه السلام): «لا تَكُفُّوا عَن مَقالَةٍ بِحَقٍّ، أو مَشورَةٍ بِعَدلٍ».

ان التسامح فضيلة وقيمة مهمة من القيم والفضائل التي حثّ عليها الإسلام، ودعا إلى التحلي بها، وأمر أتباعه بالتخلق بالسماحة والعفو والصفح والرحمة والرأفة والرفق في القول والكلام، وفي التعامل والسلوك.

والتسامح يحمل مفهوماً أخلاقياً يدعو إلى العفو والصفح وتقبل الآخر وعدم إلغاء الآخرين رغم اختلاف أفكارهم ومعتقداتهم مع التمسك بثوابت الدين الأساسية.

فالتسامح يستعمل بمعنى السهولة في المخالطة والمعاشرة، وهو لين في الطبع، والسهولة واللين تارة تكون بالكلام، وتارة تكون بالسلوك.

والحاجة إلى التسامح لأن الناس بطبيعتهم يختلفون في كل شيء، وتتباين وجهات نظرهم في القضايا الدينية والاجتماعية والفكرية والثقافية وغيرها؛ فهم بحاجة إلى التسامح كقيمة أخلاقية وإنسانية، وكحل عقلاني لإيجاد الصيغ المناسبة للتعايش فيما بينهم، واحترام بعضهم للبعض الآخر، بعيداً عن روح التعصب والإقصاء والتشدد.

ويوجد الكثير من النصوص الدينية في الأخلاق الإسلامية التي تشير إلى مفردات التسامح كالعفو والصفح والصبر والمداراة والمجاملة والسماحة والإحسان والرأفة والشفقة، وهذه المفردات الأخلاقية والإنسانية تتقارب في مضمونها مع مصطلح التسامح.

ما نقصده من التسامح هو حق الآخر بالاختلاف والتعايش معه، من دون قطيعة أو جفاء أو صِدَام أو عداوة؛ ولا يعني التسامح التنازل عن المعتقدات أو القناعات الفكرية أو المساومة حولها، وإنما يعني التعايش مع الآخر، والتعامل معه بإنسانية وعدالة وإنصاف بغض النظر عن صحة أفكاره وخطئها.

ان التسامح الفكري ضرورة وحاجة مجتمعية، وذلك لأنه من الطبيعي أن تتباين الآراء الفكرية والثقافية المطروحة في المجتمع، وتتعدد النظريات الفكرية، وتختلف الاجتهادات حول مختلف المسائل والقضايا، لكن المهم أن يكون ذلك بصورة علمية، وأن يطعم الاختلاف بتسامح فكري بعيداً عن لغة الإقصاء أو الإلغاء أو التهميش، مما يساهم في تطوير الأفكار ومراجعتها وفحصها والتأكد من صوابيتها.

وإذا ساد المجتمع تعصب فكري لرأي واحد، أو وجهة نظر واحدة، أو نظرية واحدة فهذا يؤدي إلى التعصب الممقوت، والتشدد والتطرف، وهو ما يوصل في نهاية الأمر إلى العمى الفكري، فلا يرى رأياً إلا رأيه، ولا فكرة إلا فكرته، ولا اجتهاداً إلا اجتهاده!

ويجب علينا كمجتمعات إسلامية تتنوع فيها المذاهب والتيارات والتوجهات والمرجعيات والمدارس الفكرية أن نتعلم من سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) السماح للآراء المختلفة بالتعبير عن نفسها ووجودها، والابتعاد عن الرأي الواحد، وإقصاء الآخرين حتى نشيع في مجتمعنا روح التسامح الفكري المنشود.

اننا أحوج ما نكون اليوم إلى التحلي بالقيم الأخلاقية، والتعامل مع مختلف الآراء والتوجهات والمكونات الاجتماعية بأخلاقيات التسامح والتعايش، وآداب الاختلاف.

وهناك قاعدة في الأصول يقرر العلماء فيها أنه: كل ما ليس قطعياً من الأحكام هو أمر قابل للاجتهاد، وإذا كان قابلاً للاجتهاد فهو قابل للاختلاف، كذلك الأمر في الفكر والثقافة.

وإذا ما وضعنا نصب أعيننا أخلاقيات الإسلام وآدابه فإن هذا يساهم كثيراً في تجسير الفجوة بين المختلفين، وتثبيت دعائم التسامح والانفتاح بين أصحاب المذاهب والأديان والطوائف والجماعات والتيارات المختلفة مما ينعكس إيجاباً في بناء مسيرة المجتمع، والارتقاء به نحو سلالم المجد والتقدم والتطور الحضاري المنشود.

فتعددية الآراء والأفكار والاجتهادات في أي حقل من حقول المعرفة إنما تعد ثروة علمية، فالتعددية دليل على وجود عقول كبيرة ومتنوعة في التفكير والمنهج العلمي، وقادرة على العطاء والإنتاج العلمي المتجدد.

فمن الصعب أن تجد اتفاقاً عاماً على موضوع تتعدد وجهات النظر حوله، بل نستطيع القول: قلّما يتفق أصحاب الرأي في موضوع واحد على رأي واحد.

إن وجود وجهات نظر متباينة حول الكثير من المواضيع محور البحث والنقاش على المائدة العلمية شيء منطقي وواقعي، ولكن غير المنطقي هو مطالبة أصحاب الرأي على أن يتفقوا في كل شيء على رأي واحد.

فالاختلاف القائم على أسس علمية مجردة، رحمة بالأمة وتوسعة عليها، فما دام باب الاجتهاد مفتوحاً ومشروعاً لكل من تتوافر فيه مؤهلات الاجتهاد، وما دام أن الله سبحانه وتعالى قد أعطى كل واحد منا عقلاً كي يفكر به، وحثنا في أكثر من آية شريفة على ممارسة التفكير، واعتبره عبادة عظيمة كما ورد في الأخبار، فإن من المنطقي بعد ذلك أن نفكر ونجتهد حول جميع القضايا القابلة للاجتهاد والتفكير، ومن ثم من حقنا أن نختلف، ولكن يجب أن يكون اختلافنا على أسس علمية متينة، ويجب أن نتعامل مع هذا النوع من الاختلاف بتسامح عظيم.

اضف تعليق