q

ظهرت في الآونة الاخيرة تحليلات عدة لتفسير ظاهرة التطرف العنيف وتسارع وتيرتها لاسيما في منطقة الشرق الاوسط وبالأخص بلدان الصراعات الاربعة (العراق، سوريا، اليمن، ليبيا). وأصبح هدف انهاء الصراعات المسلحة ومواجهة التطرف العنيف يحتل أولوية قصوى لدول المنطقة والدول الفاعلة في النظام الدولي لتخوفها من ان يكون الشرق الاوسط منطلقا لأزمة عالمية بفعل تهديد التطرف والارهاب للأمن والسلم الدوليين. وهذه التحليلات ركزت على اسباب العنف ولكن هذه المرة من منظور اقتصادي.

فمن بين العوامل التي تدفع الافراد الى مغادرة بلدانهم والانضمام الى جماعات متشددة هو غياب الشمول الاقتصادي في بلد المقر، والحال نفسه في بلدان الصراعات اذ يشكل غياب الشمول الاقتصادي دافع للانضمام الى الجماعات المتشددة الارهابية.

محور الموضوع هو صعود التشدد الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالإرهاب. والتشدد وفق الوكالة الاميركية للتنمية الدولية هو "الدعوة الى ارتكاب عنف له دوافع او مبررات ايديولوجية او المشاركة فيه او الاعداد له او مساندته بطريقة او بأخرى من اجل خدمة اهداف اجتماعية واقتصادية وسياسية". وهنا ينتقل المتشددين الى انتهاج العنف كوسيلة لدفع المظالم السياسية او الاقتصادية وترك الجوانب النظرية لعجزها عن رفع تلك المظالم وهنا يصبح هؤلاء المتشددين ارهابيين.

ينطوي انضمام الافراد الى الجماعات المتشددة الارهابية على منظور اقتصادي وذلك بفعل وجود عرض وطلب على المتطرفين الذين يؤمنون بالعنف وكذلك سوق يجمع الطرفين. والتحليل لذلك قائم على الكلفة والعائد وبالتالي فان فردا ما يقرر الانضمام الى الجماعات الارهابية بعد الموازنة بين التكاليف والمنافع. وهنا لانقصد بتلك المنافع ان تكون مالية فقط بل يمكن ان تشمل الروابط الاسرية او الولاء لجماعات معينة او لأداء رسالة معينة. وهذه الرؤية تؤكد ان التنظيمات الارهابية تعمل على تقديم منافع اقتصادية واخرى غير اقتصادية ترتبط في الشعور بأداء رسالة بدلا عن التعويضات وهذا الامر بالغ الاهمية للمنظمات التي تعاني من ضائقة مالية.

وفيما يخص تنظيمي القاعدة وداعش والتنظيمات الاخرى في العراق نجد انها تعتمد على عرض مزايا مالية وعقائدية في سوق التطرف لجذب المتطرفين الارهابيين فضلا عن توظيفهم السياسات الخاطئة لدول المنطقة لتحفيز الجذب، ناهيك عن عامل المغامرة والجنس وغيرها.

وفي دراسة للمرصد الاقتصادي للشرق الاوسط التابع للبنك الدولي التي اتسقت مع دراسات اخرى توصلت الى استنتاج مفاده "ان الفقر ليس دافعا لتحول التشدد الى تطرف عنيف، ولكن بالنظر الى مقاييس الشمول الاقتصادي فان هناك ارتباط قوي بين معدل البطالة بين الذكور واتجاه الافراد للتنظيمات المتطرفة. وفي حين لايرتبط الارهاب بالفقر وتدني مستوى التعليم يصبح غياب الشمول الاقتصادي أحد عوامل الخطر المؤدية لتحول التشدد الى تطرف عنيف. والبطالة بالتأكيد لها دور فعال ايضا. فالسياسات التي تشجع على خلق فرص العمل، لاتفيد الشباب الساعين وراء فرصة عمل فحسب بل قد تساعد على احباط انتشار التطرف العنيف وتأثيراته الملازمة على النمو الاقتصادي الوطني والاقليمي".

في العراق اخفقت الحكومات المتعاقبة لاسيما بعد 2003 في التعامل مع مكونات المجتمع وعدم ادراكها لأهمية تحقيق الشمول الاقتصادي والاجتماعي لأفراد تلك المكونات جميعا من جانب، والازمة الامنية المستمرة التي أربكت السياسات الحكومية وضيعت بوصلة تلك السياسات من جانب آخر،

ولكن لابد من إدراك ان الازمة الامنية المستمرة تستند الى عوامل اقتصادية، فضلا عن العوامل السياسية. والسياسات الاقتصادية بعد التغيير السياسي 2003 لم تكن بالمستوى المدرك للوضع الاقتصادي المتردي قبل التغيير. ثم كانت لسياسات سلطة الائتلاف المؤقتة دور سيء عبر سنها حزمة تشريعات على مستوى السياسات الاقتصادية وكان الغرض منها تطبيق وصفة جاهزة وتطبيق لمنهج الصدمة والتي ضيعت ما بقي من النشاط الانتاجي واغرقت الاسواق بالسلع والتي تعززت فيما بعد بفعل عدم استطاعة الحكومات المتعاقبة تغيير المنهج والسياسات تلافيا لما يسمى بالانتحار السياسي.

كذلك لا يفوتنا ان الحكومة العراقية –وفي ظل موجات الاشكاليات السياسية المترامية – كابرت على عدم تطبيق منهج العدالة الانتقالية وفق اطار قانوني يضمن تلافي اخطار المرحلة السابقة ويعوض المتضررين منها حال اغلب الدول التي تشهد تحول ديمقراطي بعد نظام دكتاتوري عتيد.

هذا الامر جعل التخبط واضحا بعد حل المؤسسة الامنية التي كانت مستوعبة لكثير من الافراد من كل انحاء البلاد واصرارها على ابعاد اولئك من مؤسسات الدولة الحديثة وفق قوانين ابعاد الاجهزة المنحلة واجتثاث البعث وغيرها رغم تأكيد المرجعية الدينية وجهات محلية عدة بعد التغيير مباشرة على اعتماد الاطر القانونية في محاسبة المجرمين قبل 2003 وتعويض المتضررين.

وبالتالي نلاحظ ان تنظيمي القاعدة وداعش الارهابيين مثلا حاضنة مهمة لكثير من الذين لم يحصلوا على دخول مالية ناهيك عن عدم تنشيط القطاعات الانتاجية نتيجة ذلك والحالة العامة للاقتصاد العراقي. وهذا الامر كان واضحا في المناطق التي ظهر وسيطر فيها التنظيمين الارهابيين. وهذا ماصرحت به بعض قيادات القوات العراقية بأن 90% من داعش هم مقاتلين محليين.

عليه نلاحظ انتماء كثير من الافراد الى التنظيمات الارهابية في اغلب مناطق العراق. كذلك يؤشر مؤشر الارهاب العالمي لعام 2015 ان العراق من أكثر البلدان التي شهدت احداث ارهابية منذ عام 2004 ولغاية عام 2014. (المصدر: مؤشر الارهاب العالمي لعام 2015).

مع نهايات العام 2014 والعام 2015 اثرت الصدمة المزدوجة المتمثلة بانخفاض اسعار النفط وزيادة الانفاق العسكري تأثيرا سلبيا على الاقتصاد اذ انكمش الاقتصاد غير النفطي بشكل كبير بسبب الحرب على داعش والاجراءات المستمرة لضبط اوضاع المالية العامة وهذا كان له الاثر في تراجع تقديم الخدمات والتوظيف وغيرها.

ومع ان ارتفاع اسعار النفط مع بداية العام الجاري يشكل عامل قوة لإيرادات الموازنة العامة للدولة الا انها لن تكون ذو فائدة تنعكس على النشاط الاقتصادي طالما يبقى التركيز على الجانب الجاري في الموازنة وعدم الاهتمام في الجانب الاستثماري، فضلا عن الفساد وسوء التوزيع. وهذا يعني ان زيادة الايرادات لن تنعكس ايجابيا على الاقتصاد وهذا تحدي كبير للحكومة العراقية مضمونه بقاء البيئة الاقتصادية غير ملائمة وتنعدم فيها فرص العمل وفرص التشغيل لاسيما في المناطق المحررة التي تحتاج اصلا الى اعادة الاعمار. وبغياب اعادة الاعمار وضعف النشاط الاقتصادي وانعدام فرص العمل والتوظيف يجعل تلك الجماعات قادرة على استيعاب افراد جدد وتجعل الشباب ينظرون الى هذه الجماعات.

ما هو مطلوب ليس الهزيمة العسكرية لتلك التنظيمات فحسب بل نحتاج عملية تكاملية ذات ابعاد (سياسية، اقتصادية، اجتماعية، وثقافية) لإخماد كل حركة تشدد ممكن ان تتحول الى حركة تشدد عنيفة. وجانبها الاقتصادي لابد من ان يكون جزء من استراتيجية عامة شاملة لإصلاح الاقتصاد وان يهتم بالشمول الاقتصادي متضمنا مؤشرات التنمية البشرية والتنمية الاقتصادية.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2017
www.fcdrs.com

اضف تعليق