q

بعد انتصار إرادة الشعب العراقي على آفة الإرهاب في المدن الرئيسة يبرز في الواجهة تحديا يتمثل بصنع السلام وإرساء دعائمه وإنهاء حالة الاحتراب والفوضى ومظاهر العنف، ولا يتم ما تقدم إلا بالانتهاء من الآثار التي خلفها الإرهاب على مختلف الصعد لاسيما تلك المتعلقة بالواقع الاجتماعي والاقتصادي بعد تحرير المدن والإنسان العراقي.

ونرى ان العامل الأخلاقي سيلعب دورا حاسماً بالنسبة لكل الجهود الرامية إلى إعادة الحياة الطبيعية للمدن المتضررة من سطوة الإرهاب، بشكل يجعل من التعامل الإنساني غاية قائمة بذاتها وصدق النيات الرامية للإصلاح قد تكون قادرة على إحداث الفرق والتغيير الايجابي المنشود، والانتقال من حالة الارتباك والاضطراب الشامل بسبب الفكر الضال نحو العيش بسلام يتطلب جهوداً مضاعفة من الجميع.

إن صنع السلام بحقيقته مسيرة طويلة لابد لها ان تنطلق من المجتمعات التي عايشت وعانت من الإرهاب أولاً، لتتمكن من رسم ملامح مستقبلها والمشاركة الفاعلة في بناء أسس مجتمع مدني يتمتع فيه الأفراد بالعدالة والمساواة والحرية والرخاء الاقتصادي، بما من شأنه تحجيم العوامل التي دفعت البعض نحو التفكير في الارتماء في أحضان الإرهاب للحصول على المال أو السلطة أو للانتقام والتعبير عن رفض الواقع وقبول الآخر، ويقع واجباً على الحكومات المركزية والمحلية في كل أرجاء العراق العمل الجاد على ترسيخ ثقافة السلام ونبذ العنف بوصف ما تقدم هدفا استراتيجيا لابد من بلوغه، والسير قدما باتجاه تحقيق الاستقرار الأمني والاقتصادي والاجتماعي والانصياع لأحكام القانون، والاحترام الحقيقي لحقوق وحريات المواطن المسطرة في الوثيقة الدستورية.

والثابت ان تحقيق ما تقدم لا يكون ناجزاً إلا بتحقيق شراكة حقيقية بين الجهات الفاعلة على الساحة العراقية الرسمية منها والدينية والاجتماعية بل وحتى الثقافية، وان يكون لمؤسسات المجتمع المدني الدور الريادي في ذلك، ومما تقدم يبرز دور الآباء والمعلمين والمربين والخطباء وأئمة الجوامع في إبدال خطاب الكراهية بأخر من شأنه ان يرسخ ثقافة قبول التنوع الفكري، وان يكون للصحافة والمثقفين دورا بارزا في ما تقدم، فنحن بحاجة إلى رسم أهداف مسبقة توضع في اطار استراتيجية مرحلية وأخرى طويلة الأجل تركز على الآتي:

1- إشاعة مفهوم ثقافة السلام ونبذ العنف على الصعيد الاجتماعي بمختلف الطرق والوسائل وبالأخص عبر التعليم الأساسي والجامعي والديني.

2- إشاعة مفاهيم التسامح الديني والتركيز على أدلة الأحكام الشرعية الراعية للسلم والسلام والتذكير بهدف الأديان جميعاً إلا وهو سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.

3- اعتماد برامج تنموية من شأنها توفير فرص العمل للطبقة الشابة التي تملك مقومات النهوض عمرانياً واقتصادياً بالمجتمعات.

4- التركيز على ترسيخ ثقافة احترام حقوق الإنسان وحرياته التي تكفلت بضمانها الشرائع السماوية جميعاً والمواثيق الدولية والنصوص القانونية الوطنية في جميع الظروف.

5- أهمية المساواة بين الجميع على مستوى الوطن والمحافظة والقضاء والناحية وعدم التمييز لأي سبب كان بين الرجال والنساء أو بين الأفراد بمختلف الانتماءات.

6- أهمية ترسيخ المبدأ الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة وتهذيب الخطاب السياسي المتشنج الذي طالما كان الباعث الدافع للكثير الكثير من الجرائم المرتكبة بحق الشعب العراقي، وبهذا يبرز دور الحكومة والبرلمان في تبني نظام انتخابي عادل يكفل تمثيلاً حقيقياً للشعب وتداولاً سلمياً للسلطة وفق أسس المبدأ الديمقراطي.

7- ولإستكمال ما تقدم لابد من بناء علاقات دبلوماسية متوازنة مع المحيط الدولي والإقليمي، بما من شأنه ان يحد من التدخل غير المبرر لبعض الدول في الشأن العراقي والذي كان في الغالب تدخلاً هادماً للحمة الشعب ووحدته.

وصنع السلام مسيرة وهدف سامٍ، بل هي اسلوب حياة ينبغي ان يتم تربية وتهيئة الجيل الجديد للسير بمقتضاها آنيا ومستقبلاً، وبطبيعة الحال الأمر بحاجة إلى ان تقف الحكومة والمؤسسات الرسمية ولاسيما الأمنية منها عند واجبها الأساسي الذي يتمثل في احترام حقوق الإنسان وحرياته وجعلها الغاية التي لا تطالها الممارسات غير المنضبطة بحال من الأحوال فلابد من احترام الحياة والكرامة بكل أبعادهما، ونقصد بالحياة في هذا الموطن بكل تجلياتها الخاصة بالإنسان والحيوان وحتى النبات فلابد من الإبقاء أو المحافظة بالحد الأدنى على ما يمكن الإنسان من ان يحيى على وجه الأرض وهو يشعر بالسعادة.

وما يحصل في بعض الأحيان بفعل الإرهاب من دمار للمدن وقتل للإنسان وهدم لكل مقومات الحياة وتحويل المناطق السكنية والزراعية إلى أرض جرداء إنما يهدد ما نصبوا إليه من تنقية الأجواء ليعيش الإنسان برخاء تام، وصيانة الكرامة الإنسانية تتطلب بالدرجة الأساس القضاء على كل ما يعترض انجاز معاملات الناس الرسمية والشخصية لاسيما الروتين الحكومي والتعامل على أساس الهوية سواءً الدينية أو الطائفية أو المناطقية وهلم جرى من الممارسات الحاطة من كرامة الإنسان.

أضف إلى ما تقدم ان القضاء على الفساد الإداري والمالي المستشري لا شك انه سيكون عاملاً حاسماً في صون الكرامة الإنسانية فحين ينتظر الفقراء ما تجود عليهم به وزارة التجارة من مواد غذائية ويكتشفون في النهاية انها غير صالحة للاستهلاك البشري فعن أي كرمة إنسانية نتحدث، وفي ذلك إهانة للقيم الإنسانية في وضح النهار.

كما يتطلب صنع السلام من الجميع نبذ العنف بكل صوره بدنياً ونفسياً بل وحتى العنف الذي تتسبب به الممارسات الخاطئة الناشئة عن الأعمال والأنشطة التجارية أو الاجتماعية والسياسية وبهذا الصدد تكون الرسالة الإيجابية التي طالما حملتها بعض المرجعيات الدينية التي دأبت على انتهاج اسلوب التغيير الذاتي في العمل السياسي في بلدنا مصداق لما تقدم إلا ان البعض وللأسف يجهض هذه الجهود ويحاول ان يغطي على تلك المحاولات الإنسانية في ضرب أروع الأمثلة العملية الرافضة للعنف والمشجعة على قبول الآخرين، وصهر المجتمع بكل ألوانه ضمن بوتقة الوطن الواحد والهم الواحد، إذ يقول رسول الإنسانية النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا ما اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى).

كما إننا ندعو كل من السياسيين والأحزاب والشخصيات الاجتماعية المؤثرة ان يكون لهم أيضاً صوت وموقف تجاه المحاولات الرامية إلى ترسيخ ثقافة السلام عملياً وتطبيقياً، والمؤسسات الرسمية هي الأخرى ملزمة ان تتخذ من الخطوات العملية ما من شأنه ان يسهم في صنع نموذج الإنسان العراقي المسالم المحب للسلم عبّر المؤسسات الحكومية التعليمية والإعلامية والثقافية والرقابية التي تمنع أو تقمع كل المظاهر التي من شأنها ان تشجع على العنف أو تغذي خطاب الكراهية أو تساهم في تفشي ظواهر العنف في المجتمع بأي شكل من الأشكال.

توصيات لترسيخ ثقافة نبذ العنف

ولنا في هذا المقام بعض التوصيات التي نرى ضرورة الأخذ بها علها تؤدي في النهاية إلى ترسيخ ثقافة نبذ العنف بكل صوره وتجلياته:

1- بالدرجة الأساس لصنع ثقافة سلام حقيقية لابد من ان يتم التركيز على تنشئة الجيل الجديد على قيم التسامح وقبول الآخرين مهما كانت الفوارق معهم فكرياً أو عقائدياً أو ما إلى ذلك، وبهذا الصدد يبرز دور العائلة والمعلم فكل منهما له دور أساسي ويكمل أحدهما الآخر إذ تعد تربية الأولاد وزرع ثقافة السلام في نفوسهم منذ الصبا خطوة حاسمة باتجاه صنع السلام وترسيخ قيمه اجتماعياً وثقافياً.

2- التركيز ايضاً على النساء كون الثقافة التي يمتزج بها الطفل ومنذ نعومة أظفاره مكتسبة بالدرجة الأساس من أمه وان إعداد النسوة والبنات لهذا الدور إعداداً جيداً من شأنه ان يأتي بثمار وأثار إيجابية تحدث فرقاً في التنشئة والتربية وتغييراً ثقافياً ومعرفياً ايجابياً في المجتمع، لهذا الجميع مدعوين إلى تبنى خطط مستقبلية من شأنها ان تزج أكبر قدر من الإناث في برامج ثقافية تعدها للدور المستقبلي الملقى على كاهلها.

3- كما ان مؤسسات المجتمع المدني لابد ان تأخذ دورها الكامل في صياغة أسس التعايش وصنع السلم الاجتماعي بكل أبعاده المستقبلية وان يكون لها دور في وضع الخطط والاستراتيجيات المرحلية وطويلة الأجل التي تركز على التغيير المطلوب، ولابد للحكومة العراقية والبرلمان ان يتخذ من هذه المنظمات حليفاً يسند أو يشارك كل الخطوات الهادفة إلى إحداث التغيير المنشود.

4- أهمية ان تدرك المؤسسة الرسمية بمختلف مستوياتها الوطنية والمحلية خطورة ما مرّ به العراق من مراحل ساد فيها خطاب الإقصاء والكراهية وضرورة ان تتبنى البرامج والخطوات العملية التي من شأنها ان تذيب الآثار السلبية لتلك المراحل المظلمة وتهدم ما شقي الإرهابيون في ترسيخه من ثقافات شاذة ومتوحشة واستبدالها بأخرى إنسانية وحضارية تهتم بالإنسان بما هو إنسان.

5- أهمية دور الخطاب الديني في حصول التغيير الايجابي في المجتمع والانتقال إلى مرحلة التعايش بسلم أهلي تام، على أن يؤخذ بنظر الاعتبار ان يكون الخطاب موحداً عبر التنسيق المسبق بين المؤسسات الدينية بمختلف مشاربها.

6- ضرورة القضاء على كل مقومات التمايز والطبقية وإنهاء حالة الفساد الإداري والمالي التي من شأنها ان تغذي الفكر المتطرف والأفكار الشاذة التي من شأنها ان تأتي على البناء الهادف إلى ترسيخ ثقافة التعايش.

7- أهمية ان تأخذ المؤسسات الرسمية دورها في الحد من انتشار السلاح وحصره بيد الدولة، وسرعة حسم المعركة مع الإرهاب والانتهاء من ظاهرة عسكرة المجتمع.

8- أهمية القضاء على الظواهر المرسخة لثقافة العنف عند الأطفال ومنها منع تداول الألعاب بكل صورها الاليكترونية والبلاستيكية وغيرها التي تدل أو ترمز إلى الأسلحة أو استعمال العنف وغيرها، كما ان الواجب يحتم على المؤسسات الرسمية تشذيب المحتوى غير المناسب المتداول على القنوات الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي والتركيز على المحتوى الايجابي الذي يركز على التسامح والتعامل الإنساني.

.....................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2017

هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

هـ/7712421188+964
http://ademrights.org
[email protected]

اضف تعليق


التعليقات

sameera kalid
العراق
يجب ان تكون نية حقيقة لجميع الاطراف المتنازعة لحل النزاع وهذا من اهم مقومات بناء السلام في العراق2019-10-03