q

المقدمة

خلصت المباحث السابقة، حول إطار العلاقة بين الدولة والشعب، وماهية الحدود والضوابط، والأسس التي تبتنى عليها هذه العلاقة إلى ضرورة التعمّق في البحث، في مفهوم العدل وتعاريفه ومعالمه، والبصائر في الحكم بين الناس وفيهم بالعدل، وذلك من خلال التدبر في الآية القرآنية الشريفة، التي هي المدخل للبحث، وهي الإطار، وهي المقوم والمسدد لهذه البحوث جميعاً.

وكذلك التعمق في الضمانات التي ينبغي أن تتوفر، لكي نضمن استقامة الجيش والقوات المسلحة ونزاهتها وعدالتها، كلما نشب نزاع أو صراع أو خلاف بين الدولة والشعب، باعتبار أن الجيش والقوات المسلحة، هي أقوى ركيزة بيد المستبدين، لضرب حركة الأمم ونهضة الشعوب، لو لم توضع هذه الضمانات، ولو لم نؤسس لسلسلة من العوامل، التي تحول دون تحوّل الجيش من كونه أداة لحفظ الاستقرار في البلد، ومن كونه حصناً للرعية، على حسب تعبير أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) في عهده لمالك الأشتر حيث يقول: (فَالْـجُنُودُ بِإِذْنِ اللَّهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ)[1] تحولّه إلى أداء قمع واستبداد.

الغاية

بيان معالم العدل وتعاريفه لجهة الحكم فيه، وتكملة الضمانات لاستقامة الجيش والقوات المسلحة، وسلامة أدائها وعدالتها، وضمان عدم استخدامها أداة للقمع بيد الدولة الجائرة.

المبحث الأول: بصائر قرآنية

معالم العدل وتطبيقاته

قال الله سبحانه وتعالى وجلّ اسمه: [وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ]، من الإضاءات والبصائر في كلمة العدل ما مضى بحثه في الفصول السابقة من ضرورة بيان ماهية وتعريف العدل؛ حيث أنه قد عرف بتعريفات شتى ككونه:(وضع الشيء في موضعه)، و(القصد في الأمور).

والقصد هو جذر لكلمة الاقتصاد، وهو يعني التوسط في الأمور، وكون العادل (أن يثيب المحسن على إحسانه، و يجازي المسيء على إساءته)، وأيضاً (الاعتدال والتوسط بين الجانبين وبين النمطين)، أي رعاية الاعتدال والتوسط والاستقامة بين جانبي الإفراط والتفريط من جهة، وبين النمط العالي والنمط الداني أو السافل من جهة أخرى.

1- العدل الكمي والكيفي

وتوضيح ذلك إن العدل يعني أولاً العدل كمياً، وفي الجهة الكمية، وثانياً يعني العدل في الجهة الكيفية، وثالثا يعني العدل جهوياً أي في الجهة، فالعدل له أبعاد ثلاثة: العدل في الكم والكيف والجهة.

وهو مطلوب في الكم والكيف والجهة، ولنبدأ بذكر بعض الأمثلة على العدل في الكم وفي الكيف.

أ- العدل في الأكل والطعام

(العدل في الأكل)، فإن العدل كما هو أن لا يأكل كثيراً حتى التخمة، ولا يأكل قليلاً حتى يقعده الضعف المفرط عن العبادات، أو عن خدمة الناس، أو عن أداء سائر أدواره الطبيعية ووظائفه الشرعية والعقلية.

أما (العدل كيفاً)، فهو أن يأكل باعتدال الطعام المتوسط، وليس كذلك من يأكل طعاماً فاخراً جداً، كمن يذهب إلى مطعم راق جداً، فبدل أن ينفق عشرة دنانير مثلاً على الطعام يصرف مائتي دينار، فالعدل أن يأكل كمّاً باعتدال، وكيفاً الطعام المتوسط.

وإليكم هذه القضية التاريخية لما فيها من العبرة، ولنعرف كيف يعيش الطغاة والمستبدون، وكيف (يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ)[2].

يقول أحد ضيوف معاوية: دخلتُ عليه فدعاني إلى الطعام، وكان في السفرة ما لذ وطاب من الأطعمة، بما لا يراه الفقراء حتى في أحلامهم. ورأيت هناك نوعاً من الطعام لذيذاً جداً، لم أر مثله أبداً، ولم أسمع عنه أصلاً، فسألت معاوية عنه. فقال: إن هذا الطعام يتكوّن من مخ العصافير.

حيث كان معدو الطعام يستخرجون مخ العصافير مع صغر حجمها ـ فما بالك بأمخاخها ـ بما يكفي لوليمة فاخرة، فتطبخ بدهن الفستق، وبوصفات متميزة أخرى.

وكان يصل بهم الأمر أحياناً إلى اصطياد عشرة آلاف عصفور، للوليمة الواحدة! كل ذلك لكي يصنعوا من أمخاخها لذيذ طعام لمعاوية الذي عمّر بطنه بأموال اليتامى والفقراء، وبنى ملكه على أكتاف المستضعفين، (ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع)[3]، كما يقول أمير المؤمنين ومولى الموحدين (عليه صلوات المصلين).

بل نقول: لو أن شخصاً أنفق على مثل ذلك من خالص أمواله، حتى لو لم تكن من بيت مال المسلمين ولا من أموال الناس، ولم تكن سرقة وغصباً واحتكاراً واحتيالاً، وكان قد حصل على المال من حلّه، فإنه مسرف جائر ظالم غير عادل، إذ كان عليه أن ينفقه في محله.

ب- العدل في الإرث

مثال آخر: (العدل في الإرث)، فلو راجع أخوان قاضياً، فإن العدل أن يعطي كل واحد منهما من الناحية الكمية كالآخر ما داما أخوين، ومن الناحية الكيفية أيضاً، عليه أن يساوي بينهما، فإذا كانت للميت داران، فأعطى لهذا داراً وللآخر داراً، فهذا ليس بالضرورة عدلاً إذا لم تتطابق الكيفيتان، بأن لم تكن هذه الدار من الناحية الكيفية كتلك الدار.

ج- العدل في التوظيف

مثال آخر فيما يرتبط بالدولة، وبالوزراء، وفيما يرتبط بالجيش وكبار قادته، فإننا نلاحظ إجحافاً وظلماً في (نظام التوظيف) الحالي، فإن الأكابر ومن عنده واسطة من الأكابر، يوظف ابنه في أفضل الأماكن.

أما عامة الناس، ولعل الكثير منهم، أكثر كفاءة من كفاءات هذا الابن، فهم يحرمونه حتى أحياناً من أبسط الوظائف، إن هذا كله هو إجحاف وظلم، وهو نوع من الأثرة، (اسْتَأْثَرَ فَأَسَاءَ الْأَثَرَةَ)[4]، كما يقول أمير المؤمنين (عليه الصلاة وأزكى السلام) عن عثمان.

ومن جهة أخرى نجد أن كثيراً من المسئولين في الدولة ـ وهذه من علائم الدول الاستبدادية ـ له عدة مناصب بمعنى أنه عضو في مجلس إدارة هذه الشركة، ورئيس تنفيذي لتلك الشركة، ومدير لشركة أخرى، وعضو فخري في هذه الجامعة وهذه المؤسسة، ولعل الشخص الواحد منهم، هو مدير أو عضو شرف أو عضو مجلس إدارة، لثلاثين أو أربعين شركة أو مؤسسة.

وفي المقابل تجد كفاءات متميزة لا تحصل على فرصة عمل فيضطر للعمل كسائق أجرة أو غيره، إن ذلك كله من ألوان الظلم.

نعم، إذا كانت الحكومة ديمقراطية حقيقة، وطلبت تلك الشركات هذا الإنسان نظراً لكفاءاته فلا بأس بذلك، ولكن ليس إذا اتخذوه وسيلة، لكي يصلوا عبره إلى أهدافهم باعتباره ذا منصب في الدولة.

فتطلب الشركة منه أن يكون عضواً في مجلس إدارتها؛ لأنه سوف يستغل موقعه لتكريس مكانة هذه الشركة، وإرساء المناقصات ـ مثلاً ـ عليها رغم وجود الأحق منها ـ كما سيأتي ـ فهذا هو الإجحاف، وهذا هو الظلم.

أما إذا كان الشخص بما هو هو ذا كفاءة، وتتهافت عليه الشركات أو المؤسسات لكفاءته، من دون أن يستغل منصبه ظلماً وإجحافاً، فهذا مما لا إشكال فيه وهذا عدل، ووضع الشيء في موضعه، إذا كان بالفعل قادراً على أن يقوم بتلك الأدوار بأكملها.

وهذه الأمثلة التي أشرنا إليها هي كثيرة الابتلاء، ففي الأكل نجد أن الناس عادة مفرطون في الأكل، إما كماً وإما كيفاً. وفي قضية الإرث ومختلف مسائل القضاء، نجد أن أكثر القضاة أو كثيراً منهم، يقضون بالجور، وفي المثال الثالث في التوظيف أو في المنصب، نجد أن مسئولي الدول، عندما يحتلون موقعاً معيناً، فإن ذلك ليس لأنه الشخص المناسب له، بل لاعتبارات مصلحية أخرى.

د- العدل في المناقصات

والمثال الرابع هي (المناقصات)، فإن البلد يحتاج إلى معامل ومصانع، ويحتاج إلى تعبيد الطرق والشوارع، أو إلى موانئ أو أي شيء آخر، والواجب على الدولة أن تضع ذلك في مناقصة، لتعرض الشركات المختلفة أطروحتها والطريقة التي ستنفذ بها المشروع، والامتيازات التي توفرها، وكم من المال تطلب.

وهنا فإن على المسئول المكلف بهذا الملف الخاص، كـوزير الزراعة أو وزير الإسكان أو أي وزير آخر، أن يرى أي مناقصة هي الأفضل، وأي عرض هو الأفضل، من حيث تكلفة أقل لخزانة الدولة، ومن حيث إنجاز المشروع بمواصفات أفضل وأجود.

لكن المشاهد في غالب الدول حتى الدول الديمقراطية ـ وإن كانت بنسبة أقل ـ أن الرشوة التي تقدم لهذا المسئول بشكل أو بآخر، بشكل خفي حالي أو مستقبلي، من قبل إحدى الشركات ـ وهذا موطن من مواطن العدل الرئيسية والظاهرة ـ ستكون هي الفيصل ولها الكلمة العليا.

هـ- العدل في القيادة والمنصب

المثال الآخر والبعد الآخر، في (قيادة أو منصب مؤسسات المجتمع المدني، وفي النقابات، وفي الأحزاب وفي التنظيمات).

فهل هذا الشخص الذي كان يقود النقابة أو الحزب، هو الأكفأ بالفعل من كافة الأعضاء، طوال خمسين سنة كاملة، حتى يبقى هو القائد أو هو الرئيس أو هو المسئول دائماً أبداً؟!.

لا شك أنه ليس الأمر كذلك، وإن كان من الممكن نادراً أن يكون الأمر من هذا القبيل، لكن لماذا الأمر على هذا النحو في هذه الأحزاب والمنظمات، دينية كانت أو غير دينية!!.

إن العدل من المستقلات العقلية، وهو مأمور به شرعاً أيضاً، فإذا كان مخاطبنا متديناً فإن عليه أن يقبله؛ لأن الله قد أمر بالعدل. وإذا كان غير متدين، فعليه أن يقبل ذلك أيضاً؛ لأن العدل من المستقلات العقلية، فلماذا يبقى شخص ما في منصبه دائماً وأبداً، حتى لو كان هو مؤسس الحزب؟!.

لقد برزت دماء جديدة، وكفاءات متميزة، فلم لا تكون هنالك انتخابات لكي يبرز الأكفأ، ليوصل هذه الجماعة للأهداف المتوخاة؟!.

إذن [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ]، ويقول تعالى: [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ][5]، وما ذكرناه من الأمثلة والنماذج تعد من مصاديق العدل المأمور بها وجوباً، إلا لو دل دليل خارجي على استحباب ذلك، لكن الأصل في العدل أنه واجب.

بل إن الاستثناء من ذلك، قد يكون استثناءاً موضوعياً، وذلك يعني أنه إذا لم يكن واجباً، فلا يسمّى عدلاً، في هذا الاصطلاح لا في الاصطلاح الأعم، الذي يعني وضع الشيء موضعه، فإن هذا معنى أعم يشمل حتى المستحب، الذي قد وضعته موضعه، ويشمل المكروه إذا لم تضع الشيء موضعه.

والحاصل: إن العدل إذا أخذ بمعنى وضع الشيء موضعه، يكون أعم من الواجب والمستحب والمكروه، لكنه بمعان أخرى كـ (إعطاء كل ذي حق حقه) قد يكون مساوياً ومساوقاً للواجب، وللعدل الذي أمر به الله سبحانه وتعالى.

2- العدل الجهوي

ولكن ما هو معنى (العدل في الجهة)؟.

والجواب: يعني ذلك أن الإنسان قد يكون من الناحية الكمية عادلاً، ومن الناحية الكيفية كذلك، فيوصل إلى ذي الحق حقه، لكنه يمكن أن لا يكون عادلاً جهةً، وذلك كما لو قضى القاضي بالعدل، فأوصل الحق بكمه وبكيفه إلى المظلوم، لكن الجهة لم تكن جهة إلهية، بمعنى أنه لم يفعل ذلك لله، ولا لأجل إحقاق الحق، وإنما لمصالح معينة يرتئيها.

مثل أن يحتمل أنه يوماً ما، سيصل هذا المظلوم إلى مناصب رفيعة، فلتكن له عنده يد وفضل، هل هذا عدل من الناحية الجهوية؟.

كلا؛ لأنه لم يقم بالعدل لأجل أنه عدل، أو لأجل رضا الله سبحانه وتعالى وإنما لمصالحه. وكذلك لو أن هذا القاضي قضى بالعدل لعلمه أن هنالك هيئة رقابة، فلو لم يعدل لعُزِل فيعدل.

والحاصل: إن العدل في الجهة يقصد به (وجه العمل)، فإذا لم تكن الجهة فيه هي الحب لله أو الحب للعدالة، وإنما كانت خوفاً أو طمعاً أو تقية مثلاً، فإن عمله من هذه الجهة ليس عدلاً، فتأمل.

ولمزيد التوضيح نقول: إن العدل يمكن أن يطلق على الجهة التي تتعلق بالقلب، يقول الله سبحانه وتعالى: [وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ][6]، فقد فسر العدل في هذا الموضع من الآية المباركة بالعدل القلبي في الحب؛ لأن الآية الأخرى تقول: [فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً][7]، وهذه الآية تقول: [وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ].

كيف يمكن التوفيق إذا كنا لا نستطيع أن نعدل أبداً، فلا يصح تشريع الزواج بأكثر من واحدة، وليس فقط [فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً].

فالجواب كما يقول الإمام (عليه السلام)[8]: إن تلك الآية [فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا]، يراد بالعدل فيها العدل في النفقة، والعدل في العشرة، وما أشبه ذلك، يعني العدل الكمي والعدل الكيفي، ولا يراد بها العدل الجهوي القلبي.

أما هذه الآية التي تقول: [وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ] فالمراد بها العدل قلباً، فإن الإنسان لا يستطيع أن يحب ابنيه مائة بالمائة بالتساوي، أو زوجتيه لو كانت له زوجتان أو أكثر من ذلك.

المبحث الثاني: ضمانات استقامة الجيش وعدالته

تطرقنا لجانب من الضمانات التي ينبغي أن تتوفر في الجيش والقوات المسلحة، لكي نضمن عدم تحول هذا الجيش وتلك القوات المسلحة، وأفراد قوات الأمن والاستخبارات وغيرهم، إلى معاول تهدم حقوق الناس وتسحق حقوقهم، وتهدم حرياتهم، وتهدم بنيان وبنية المجتمع، وتم التأكيد على خمسة منها في البحوث السابقة.

6- بنود ثلاثة في هيكلية التجنيد

أما الضمانة السادسة فتتكون من ثلاثة بنود:

البند الأول: هو إلغاء الجندية الإجبارية.

البند الثاني: هو تقليص الجيش النظامي والمحترف.

البند الثالث: هو تعميم التدريب التطوعي.

فهذه الثلاثة تشكل ضمانة من الضمانات، وإن كان يمكن لكل منها أن يشكل ضمانة، ولكن جمعناها تحت عنوان واحد روماً للاختصار.

أ- إلغاء التجنيد الإجباري

في كثير من الدول يوجد نظام التجنيد الإجباري لعامة الناس، وهذا في رأينا خطأ كبير، ومدان عقلاً وشرعاً. أما شرعاً فلأن من المسلمات أن الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم وحقوقهم، وهذه قاعدة شرعية مأخوذ بعضها من القرآن الكريم، وبعضها من السنة الشريفة.

فالناس مسلطون على هذه الأمور الثلاثة: أنفسهم وأموالهم وحقوقهم، دون شك. أما التجنيد الإجباري أو الإلزامي، فهو هتك وخرق لحرية الإنسان، ولسلطته على نفسه وحقوقه، هذا من الناحية الشرعية.

وأما من الناحية العقلية، فإن التجنيد الإجباري يعني تضخم الجيش وكثرة أفراده، فيتحول الجيش الذي كان ينبغي أن يكون عشرة آلاف إنسان فقط، إلى مليون إنسان أو مليوني إنسان أو ثلاثة ملايين إنسان، وكلما كبر الجيش وتوسع، أضر باقتصاد البلد أكثر؛ لأن هذا الجندي إما أنه مزارع سيذهب للجندية، أو هو شاب يريد أن يدرس الطب، أو الهندسة أو المحاماة، لكنه سيذهب للجندية لسنتين أو أكثر أو أقل، فيكون قد عطل عن الإنتاج بنفس هذه النسبة.

ولكي نعرف حجم الخسارة وفداحة الضرر، لنتصور بلداً نفوسه مائة مليون، ولنفرض أن الشباب منهم يبلغون أربعين مليون، أو أقل أو أكثر، وذهاب هؤلاء بالنتيجة للجندية، يعني أربعون مليون طاقة معطلة لمدة سنتين، وأيُّ ضرر باقتصاد البلد يلحقه ذلك!!.

هذا أولاً: الطاقة التي قد عطلت، ومن جهة ثانية: فإن هذا المجند صار عالة على الآخرين؛ لأنه لم يعد يعيل نفسه بنفسه، بل يجب أن يُنفق عليه، ومن الذي ينفق عليه؟!.

أبواه أو الدولة من أموال الضرائب، أو من أموال النفط أو ما أشبه ذلك، وذلك كله يعني أنه قد صار عالة على الناس، فقد عطل عن العمل من جهة وهذه خسارة، وقد أضحى عالة على الآخرين وهي خسارة ثانية.

وأما تاريخياً فنقول: قد ظهر التجنيد الإلزامي في العصر الحديث، وليس له عمق في الزمن، وإن أول من سَنَّهُ في أواخر القرن الثامن عشر هو نابليون بونابرت، الذي قنّن ووضع نوعاً من التجنيد الإلزامي على عامة الناس.

فهو قد بدأ فيه، والحلفاء من جهة ثانية أيضاً كرد فعل عكسي، قنّنوا التجنيد الإلزامي.

إذن التجنيد الإلزامي لا يتفق مع فطرة الإنسان، بل هو على العكس ضد الفطرة، ولا يتفق مع الدين بل هو ضد الدين، كما أنه لا يتفق مع العقل، بل هو في تقاطع مع العقل والمنطق، وإنما هو بدعة أحدثها نابليون في العصر الحديث، فلماذا تتبع الدول الإسلامية هذه البدعة؟!.

أما كونه مخالفاً للفطرة أولاً؛ فلأن الناس خلقوا أحراراً (وَلَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللَهُ حُرّاً)[9].

وكونه مخالفاً للعقل ثانياً؛ لأنه أهم دعامة من دعائم تكريس سلطة المستبدين والجائرين والظالمين.

وكونه مخالفاً للشرع ثالثاً؛ لأن الناس مسلطون على أنفسهم وأموالهم وحقوقهم، كما أنه مخالف لمصالح الناس رابعاً؛ لأنه يضر باقتصاد البلد، ويضيع مئات الملايين من ساعات العمل المنتج، هذا كله إضافة إلى أنه يفتقد حتى السندية التاريخية، إنما هو بدعة مبتدعة.

ولئن قال قائل: إن التجنيد الإلزامي أصبح في هذا العصر ضرورة.

فسنقول: نعم، هو ضرورة للحاكم الطاغية لتدعيم أعمدة استبداده ودكتاتوريته، أما للشعب فلا. ولذا نجد الكثير من الدول قد ألغت التجنيد الإلزامي، أو أنها لم تعمل به من الأساس، ولم يحدث فيها اضطراب ولا خلل ولا فوضى، وحسب تقرير أممي قام بتصنيف الدول إلى ستة أصناف، نجد الحقائق التالية، يقول التقرير:

الصنف الأول من الدول هي الدول التي لا يوجد فيها تجنيد إلزامي، وهي مائة وثلاث وعشرين دولة، وهذا الرقم ليس بالشيء القليل.

فلتكن هذه الدولة الإسلامية من تلك الدول المائة وثلاثة وعشرين، والتي مع ذلك لم تختل أوضاعها، ولا حدثت فيها فوضى كما يزعمون، ويعني هذا أن واحداً وستين بالمائة من دول العالم، ليس فيها تجنيد إجباري.

والصنف الثاني هي الدول التي تمتلك جيشاً لكنه يستخدم فقط في الشؤون المدنية ـ وهي مجال نشاطها ـ لا في الشؤون العسكرية، كما أن الجنود فيه غير مسلحين، وهذه الدول هي سبع دول، مما يعني حوالي أربعة بالمائة.

والصنف الثالث من الدول، هي التي تسلك سبيل التجنيد الطوعي أو الاختياري غير إلزامي، وهذه ـ حسب هذا التقرير ـ أربع عشرة دولة، أي حوالي سبعة بالمائة.

فلم لا نكون نحن من هؤلاء؟!.

وهل هذه الدول قد اختل وضعها؟!.

والصنف الرابع وفي الاتجاه المقابل، هناك بعض الدول ـ ومع الأسف إنها إسلامية ـ التجنيد فيها إجباري أو إلزامي، إضافة إلى أنه يستمر لفترة طويلة، أي لحدود ثمانية عشر شهراً، في مصر مثلاً يستمر إلى سبعة عشر شهراً، وفي ليبيا ثمانية عشر شهراً، وفي دول أخرى كذا من الأشهر، وفوق سنتين أيضاً في دول أخرى، وهكذا وهلم جرا، وهذه الدول هي الأقل، وهي سبع عشرة دولة، أي حوالي تسعة بالمائة.

ومع الأسف، نشاهد بعض الدول الإسلامية المعروفة، ضمن هذا الصنف من هذه الدول، فهي مندرجة تحت أسوء أنواع التجنيد. التجنيد إجباري خلافاً لحريات الناس، وبأقصى درجات المدة الموجودة للتجنيد الإلزامي.

ونعود فنؤكد: إن من الضمانات إلغاء التجنيد الإلزامي، ونكتفي ها هنا بهذا المقدار[10]، وان كان استيفاء البحث بحاجة إلى تفصيل وتعميق أكثر.

ب- تقليص الجيش النظامي

والبند الثاني هو تقليص الجيش المحترف أو النظامي، حتى لو لم يكن إلزامياً. إذ يمكن أن لا تتبع الدولة التجنيد الإلزامي، لكنها تدفع رواتب جيدة، وعندئذٍ وبدل أن يتكون الجيش من خمسة عشر ألف شخص، سيضم مائة وخمسين ألف مثلاً، أو يكون نصف مليون، أو أكثر.

وكذلك قد تقوم السلطة بتضخيم الجيش عبر إعطاء مغريات أخرى؛ كالتأمين على الحياة أو التأمين الصحي، ومنح امتيازات وترقيات وإلى آخره.

إن البلد الذي يتكون جيشه من مليون، قد يكفيه في الواقع عشرة آلاف جندي فقط لا أكثر، فان الجيش كلما تضخم، يزداد خطراً على البلد، وعلى الحريات وعلى حقوق الناس، [إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى][11].

فإن الحاكم المستبد إذا كان وراءه جيش من مليونين أو مليون، فإنه سيجد الجرأة الكافية لأن يسحق العباد والبلاد، وأن يظلم، وهو يتكئ إلى جيش عرمرم. أما إذا كان جيشه عشرة آلاف فقط، فإنه لا يجرأ عندها على مواجهة شعبه، وسوف لا يطمع في إخضاع الناس له قسراً، وعندئذٍ سيضطر لكي يحكم بالعدل لا بالقهر والقسر.

إضافة إلى أن الجيش الكبير ـ كما سبق ـ هو خطر على البلد اقتصادياً، ويشكل خطورة سياسية حقيقية أيضاً.

وقد يقول قائل: إن هذه الجيوش إذا كانت محدودة قليلة العدد، فكيف نواجه بها الأعداء الخارجيين؟.

فنقول: أولاً إن الدول الاستبدادية، لا تواجه ـ عادة ـ الأعداء الخارجيين وهو الاستعمار، وإنما تواجه الأخوة والأشقاء، وما أكثر الحروب بين هذا البلد الإسلامي وذاك البلد الإسلامي!!.

إن هذه الجيوش لم تستخدم عادة لمواجهة الدول المستعمرة والمستكبرة، بل إنها عادة ما تكون مرتبطة بتلك الدول، وسيكون المآل عندئذ أن هذه الدولة الإسلامية تحارب تلك الدولة الإسلامية، أو هذه الدولة المستبدة تحارب تلك الدولة المستبدة، والمتضرر والمسحوق، هم عامة الناس، والمنتفع هو هذا المستبد حسبما يزعم.

والحاصل: إن هذه الجيوش ـ عادة ـ لا تستخدم استخدامات وطنية حقيقية، شرعية وعقلائية، وإنما تستخدم استخدامات ظالمة جائرة.

وثانياً: إن الحل فيما لو تعرضت الدولة لهجوم خارجي من عدو ظالم، يكمن في تطبيق البند الثالث الآتي.

ج- تعميم التدريب التطوعي

البند الثالث هو تعميم التدريب التطوعي، وبهذا تحل المشكلة السابقة. تدريب تطوعي لعامة الناس، وهذه هي الطريقة الإسلامية؛ أن يتدرب عامة الناس طوعاً في ميادين عامة، أو في المعسكرات على السلاح، بدون أن يكون هناك توظيف من الدولة أو راتب للمتدرب، بل إنه يقوم به مثل بقية الأشياء التي يقوم بها الناس من أنواع الرياضة ومختلف الأعمال الحرة[12]، فليكن هذا أيضاً من المجالات المفتوحة لهم.

وفائدة ذلك أولاً: إن هؤلاء جميعاً لدى حدوث الخطر الخارجي الاستعماري، سيكونون جنوداً تحت الطلب كون الشعب مدرباً.

وثانياً: إنهم بالفعل ليسوا أداة وآلة بيد الحاكم المستبد، ليقمع به الشعب؛ لأنهم الشعب نفسه، فهذا مزارع ومتدرب، وآخر بقال ومتدرب، والثالث جامعي أو أستاذ جامعي ومتدرب، وهكذا...

إن هذا هو المنهج الإسلامي الصحيح، ولو طبق هذا المنهج لكانت قبضة الدكتاتوريات ارتخت بشكل كبير جداً عن خناق الشعوب المقهورة، وهذا هو ما يدعو إليه الإسلام.

وفي قول الله عز وجل: [وَأَعِدُّوا لَـهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ][13]، نجد أن [وَأَعِدُّوا لَـهُمْ] يشمل الجميع وهو أمر عام للجميع، وليس خاصاً بالجيش.

ويقول الرسول (صلى الله عليه وآله): (أعدوا لهم يعني الرمي)[14]، وهو تفسير بالمصداق. وعنه (صلى الله عليه وآله)، قال: (علّموا أبناءكم الرمي والسباحة)[15]، وذلك يعني جميعاً، فإن الجمع المضاف يفيد العموم وفي رواية (كل لهو المؤمن باطل إلا في ثلاث، في تأديبه للفرس، ورميه عن القوس... فإنهن حق ألا إن الله عز وجل ليدخل بالسهم الواحد الثلاثة ـ أي ثلاثة أشخاص ـ الجنة؛ عامل الخشبة، والمقوي به في سبيل الله، والرامي به في سبيل الله)[16].

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام): (الرمي سهم من سهام الإسلام)[17]، وغيرها من الروايات التي تستدعي الوقوف عندها كثيراً، ويمكن استخراج منظومة فكرية متكاملة منها عن الرؤية الإسلامية تجاه التدريب والتجنيد وغيرهما، فلنترك بحثه المفصل لمجال آخر.

7- تقوية الموازي الشعبي للجيش

الضمانة السابعة: هي إيجاد الموازي الشعبي للجيش، أو تقوية الموازي الطبيعي الموجود بالفطرة وهو العشائر، وهذا أمر هام جداً واستراتيجي إلى أبعد الحدود؛ صناعة الموازي الشعبي للجيش، فإن العشائر يجب أن تكون مسلحة، متزامناً مع القوات المسلحة.

وليس من الغريب أن نجد أن الاستعمار والدول المستبدة تناهض وتعارض تسليح العشائر بشكل رهيب، مستدلين بأنه يلزم منه الفوضى والتخريب، لكن الواقع هو أن الدكتاتور ومن وراءه الاستعمار لا يريد وجود قوة أخرى ـ العشائر ـ لا تخضع له وليست أداة بيده.

إن الدول المستبدة تريد جيوشاً خاضعة خانعة بَدْوُها منها وختمها إليها، أما العشائر فليست كذلك بل هي الموازن الطبيعي للجيش، وهي المدافع الطبيعي عن العلماء، وعن الوطن، وحقوق الناس.

إننا ندعو إلى دعم العشائر وتقويتها وتسليحها، والأسباب باختصار هي أولا: لأن العشائر هي التكوين الطبيعي للإنسان، فكما أن العائلة هي بنية طبيعية، قررها الله تعالى في البشر، كذلك العشيرة فإنها هي نفس العائلة التي كبرت واتسعت وامتدت، إذ كانوا عشرة أشخاص فصاروا ألفاً، ثم عشرة آلاف.

وهل يصح أن يتذرع الإنسان بوجود المشاكل وحدوثها في العوائل، وأن هنالك الكثير من الآباء الذين يظلمون أبناءهم أو زوجاتهم، يتذرع بذلك لنسف العوائل، وإلغاء نظام العائلة؟!

كلا فان ذلك يجانب الصواب... إن العائلة يجب أن تبقى، وأن تُرشَّد وكذلك العشائر، فلو فرض أنها تعاني من سلبيات وإشكالات، فالواجب أن تُرشَّد وتربى وتعلَّم، لا أن تقصى وتقصقص أجنحتها، ويلغى دورها.

إن العشائر في واقع الأمر كانت هي السند لكل نهضة، ولكل أمة، وللمراجع العظام. وعلى سبيل المثال فإن المرجع الكبير السيد البروجردي (رضوان الله تعالى عليه) عندما أراد شاه إيران، أن يفرض نظاماً غربياً بالقسر على الناس، متكئاً على قوة الجيش، واجهه السيد البروجردي متكئاً ـ إضافة إلى القوة الغيبية والمعنوية ـ على قوة عشائر ـ عشائر الألوار ـ، وكانوا حوالي مليونين وكانوا مسلحين، لذا تراجع الشاه الطاغية، إذن العشائر تركيبة طبيعية إلهية كالعائلة تماماً.

وثانياً: لقوله تعالى: [وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ][18]، فإن العشائر إذا كانت مسلحة، فسيكون هنالك توازن طبيعي بينها وبين الجيش، وإذا ما اختل هذا التوازن، فإن الدكتاتور هو الرابح الأكبر؛ إذ يستطيع عندئذٍ أن يحكم قبضته الحديدية على الناس.

وثالثاً: لأن كثيراً من الجيوش ترتبط بالاستعمار، إما لأن الاستعمار هو الذي صنعها[19] ثم تحولت فيما بعد إلى جيوش للدول المستبدة، ولحكامها الذين جاء بهم الاستعمار أيضاً، أو لأنها وإن لم يصنعها الاستعمار، إلا أنها ترتبط بالاستعمار لاحقاً، إما عبر تحالفات، أو عن طريق شراء أسلحة والحاجة إليها أو عن أي طريق آخر، وهناك بحوث أخرى كثيرة عن العشائر ودورها تترك لوقت آخر.

8- دمج الجيش في الشعب

الضمانة الثامنة: دمج الجيش في الشعب، عن طريق إشراك الجيش في برامج خدمية، وبرامج صحية، وبرامج زراعية، وغيرها ولذلك تفصيل نتركه للمستقبل، إذا وفق الله سبحانه وتعالى[20].

المبحث الثالث: إجابات الأسئلة ذات العلاقة بموضوع البحث

السؤال: مقاربة في التدرج بإقامة الحكم الإسلامي

حول نظام الحكم في الدولة إذا لم يكن غالبيتها من المسلمين، فهل من الممكن الانتقال إلى حكم الإسلام فوراً دون التدرج في الوصول إلى ذلك، وما هي حدود التدرج وآلياته؟.

الجواب:

إن هذا السؤال هام جداً، وهو في ما لو استلمت فئة نزيهة مؤمنة، أزمة الأمور، فهل عليها أن تشرع بتطبيق قوانين الإسلام، بكافة فروعها، في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والحقوق، فوراً أم بالتدرج، سواء أكانت الأغلبية من المسلمين، أم كانوا نصف السكان أم كانوا أقلية.

وفي الإجابة على هذا السؤال نشير إلى بعض العناوين والبنود ورؤوس النقاط:

أ- استفراغ الوسع

استفراغ الوسع وبذل منتهى الجهد، فإن التكاليف منوطة بالقدرة، وما هي حدود قدرة الإنسان والقائمين بالحكم في متن الواقع. فإن الإنسان مكلف على حسب حدود قدرته، فإذا كان من المقدور التطبيق الدفعي لكل القوانين وبدون مضاعفات سلبية، يكون التطبيق الدفعي هو الواجب.

وإذا لم يكن التطبيق الدفعي والتغيير الدفعي مقدوراً حقاً ـ لا بالدعوى والإدعاء ـ فلابد من التدرج المدروس، إلا إذا كانت هنالك خصوصيات خاصة في ذلك المجتمع، أو أولئك القائمين عليه.

ب- رصد الانعكاسات بعيدة المدى

ومن الضروري مراعاة الانعكاسات السلبية القريبة والمتوسطة والبعيدة المدى لتطبيق هذه القوانين، فإذا كانت هناك ردود فعل سلبية أشد سوءاً من فوائد تطبيق القانون، فإن ذلك سيدخل في معادلة باب الأهم والمهم وباب التزاحم، وذلك كما في إجراء الحدود في هذا الزمن، ومثله مثل من كان لأحدهم في أسرته ابن مبتلى بالمخدرات أو بسماع الأغاني لا سمح الله.

فلو رأى راعي الأسرة أن التشدد مع الابن يوجب هروبه من البيت، فيخرج من رعاية الأسرة، ويلتحق بعصابات أو جماعات فاسدة، ويتحول إلى بؤرة للفساد والإفساد، فإنه حينئذ سيراعي الأهم، محافظاً أكبر القدر على احتواء الابن أكثر فأكثر.

ج- الإعداد للمستقبل

وجوب الإعداد للمستقبل، فإنه لا يصح التعلل بحدود القدرة الحالية، إذا لم يكن هنالك الإعداد المستقبلي، ويدخل ذلك في إطار معادلة الجاهل القاصر والمقصر، فإن المقصّر في الإعداد يستحق العقوبة لو خالف الواقع، وإن كان لدى المخالفة غير قادر على الاجتناب.

فمن الضروري إذن أن يعدّ العلماء والمفكرون والدعاة والنهضويون ما استطاعوا من قوة علمية وفكرية واقتصادية وغيرها، سواء في الحوزات العلمية أم في الأحزاب أم غيرها، وذلك عبر تربية كوادر وكفاءات بمقدورها تطبيق قوانين الإٍسلام في البلد، بالحكمة وبالتي هي أحسن، ولو لم يفعلوا المطلوب فلا يرفع عنهم الغضب الإلهي والعقوبة الإلهية.

نعم، لو كان المكلف غير قادر على الإعداد المسبق بشكل كافٍ ووافٍ، فإن التعلل بعدم المعرفة أو اتضاح الرؤية أو عدم وجود الكوادر والكفاءات الكافية وعدم توفر الآليات، وكانت حدود قدرته الإعدادية ثم قدرته الفعلية بهذا المقدار لا غير، عندئذ يكون معذوراً في التدرج بنفس النسبة.

وإذا أردنا أن نعرف أن هذه الجماعة أو تلك هي مشغولة فعلاً بالإعداد للعمل بقوانين الإسلام لدى الوصول إلى الحكم، فإن المؤشر الواضح لذلك أن نرى:

1- هل هذه الجماعة تعمل بقوانين الإسلام الآن وهي لا تزال في غير موقع القوة؟ مثلاً: هل نظامها شوري؟ وهل الحريات متاحة ومتوفرة؟ وهل الرأي المعارض محترم أم الاستبداد ورأي الفرد هو الحاكم؟ وهل توجد انتخابات وتداول سلمي للسلطة حسب رأي الأكثرية؟ وهل إنهم في معاملاتهم وقضائهم وغير ذلك يرجعون لأحكام الدين؟ أم لقانون الحزب أو العشيرة أو الدولة وإن خالف الدين؟.

2- هل رصدت هذه الجماعة رأسمالاً حقيقياً لتربية الكفاءات والمتخصصين في الاقتصاد الإسلامي، والحقوق والسياسة الإسلامية، وفي الزراعة والصناعة وغيرها. بحيث تجمع تلك الكفاءات بين التخصص رفيع المستوى، وبين معرفة شاملة عميقة بمنهج ورأي وموقف وحكم الإسلام في مختلف تفاصيل الحوادث الواقعة؟.

د- التدرج الحقيقي لا الكاذب

والضابط الآخر وهو شرط رئيسي: أن لا يتخذ التغيير والتدرج في برنامج العمل شعاراً وذريعة؛ لكي تتحول العناوين الثانوية إلى الأصل. فإن التدرج عنوان ثانوي، والضرورات تقدر بقدرها، أما الأصل فهو أن تطبق القوانين الإسلامية في الاقتصاد، وفي الزراعة، وفي الحقوق، وفي السياسة، وغيرها دفعة واحدة.

فإذا كان القائمون على الأمر بالفعل لا يستطيعون تطبيقها بهذا الشكل، فليكن تطبيقها بالتدريج، ولكن شرط أن لا يتحول التدريج إلى ستار زائف وكاذب، لتبرير الاستمرار على العناوين الثانوية أبد الدهر، كما هو ديدن الحكومات.

والطريق لذلك كما يقول السيد الوالد: أن تتعاون ثلة من العلماء الأعلام من الحوزات العلمية، وثلة من أساتذة الجامعة في مختلف التخصصات، في القيام بدراسات معمقة ومستوعبة وشاملة، للوضع العام ولمجمل القوانين في شتى الأبعاد ولسبل التنفيذ وآلياته، وما الذي يحتاج إلى تدرجيته؟ وما هي حدودها ومراحلها؟ أي يقومون بدراسة شاملة لتحديد الموضوع والحكم.

هـ- إشراف شورى الفقهاء

والضابط الآخر أن يكون ذلك جميعاً، تحت نظر شورى الفقهاء، والبحث طويل وكانت هذه مجرد إشارات[21].

السؤال: في الحرية وموقعها بين القيم الأخرى

إبان حكم أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (سلام الله عليه)، تظاهر البعض كي يسمح لهم بصلاة التراويح التي ألغاها أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ لأنها بدعة ولم تكن في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد وافق (عليه السلام) على مطالب المحتجين، فهل هذا يعني أن الدين يعطي (الحرية) في الدولة أولوية على تطبيق أحكام الدين؟.

الجواب:

إن هذا سؤال جيد وهام، وله امتداداته وأبعاده، ولا يمكن في هذه العجالة الإحاطة بكافة جوانب الموضوع، ولكن سنذكر بعض الإضاءات المهمة في هذا الحقل، فإن هناك عدة نقاط ينبغي أن تراعى وتلاحظ في هذه القضية:

أ- الحرية هي إحدى القيم

النقطة الأولى: هي أن الحرية هي قيمة من القيم، وليست قيمة مطلقة، فهناك قيم أخرى إلى جوار الحرية، مثل قيمة العدل، وقيمة الشورى، وقيمة الأخلاق الفاضلة، إذا لا يصح إغفال سائر القيم والتمسك بقيمة الحرية حصراً.

فإن الآية الكريمة وإن ذكرت [وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ][22] كهدف من أهداف البعثة، لكنها ذكرت أيضاً مثلاً: [وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ]، وفي سائر الآيات إشارات لسائر القيم كآية العدل، والإحسان، وآية الشورى، وغيرها.

ولا يصح التمسك بالحرية وبأي ثمن، إذ لو أطاحت الحرية بالعدالة فهل سنقبل بها؟!.

كلا... أبداً، ولو خرج الناس مثلاً في مظاهرة وطالبوا البرلمان بأن يسن تشريعاً جائراً ظالماً، مثل أن يحق للأزواج ضرب زوجاتهم حتى الإغماء، أو للآباء ضرب أبنائهم حتى الإدماء، كمثل بعض القبائل المتوحشة، أو بعض الشعوب المتخلفة.

إن الحرية ذات قيمة دون شك، ولكن العدل أيضاً له قيمته، وليست كل حرية مبررة، فإذا اصطدمت الحرية بالعدل، فإن العقلاء يرون أنه لا مجال لها.

ب- الموازنة بين القيم

النقطة الثانية: تتعلق بمقاصد الشريعة، والموازنة بين مقاصد الشريعة. إذ في باب التزاحم، لو أن هذه القيمة تزاحمت مع تلك القيمة، فيجب أن يلاحظ الأهم، ليضحى بغيره لأجله.

وكمثال: لو تزاحمت الحرية والشورى، فأيهما المقدم؟!.

فلو أن الأكثرية صوتت على إلغاء الانتخابات وعلى انتخاب حاكم مستبد، كصدام أو كالحجاج أو كهتلر، فهنا تصطدم آراء الأكثرية مع قيمة الحرية، أو فقل: إن الحرية تريد أن تلغي نفسها بنفسها؟ فما الذي تصنعه؟.

إن هذه جدلية مبحوثة في محلها، وهي من أمهات البحوث، وكذلك الأمر في سائر مقاصد الشريعة، أو الأوامر الشرعية الأخرى، كما في الأخلاق مثلاً، وفي الوظائف الدينية بمختلف ألوانها وأشكالها.

ج- فرز ملف الأقليات

النقطة الثالثة: في هذا المساق، أنه ينبغي أن نفرز الملفات الأخرى، كملف الأقليات التي لها أن تدين بدينها من دون أن يُفرض عليهم قانون البلد الحاكم، وهذا يعني أن الأكثرية المسلمة، من الشيعة أو السنة، لا يحق لهم أن يفرضوا على الأقلية المسيحية أو الأقلية اليهودية أو البوذية قوانينهم في الأحوال الشخصية مثلاً.

نعم، النظام العام السيال، كنظام المرور مثلاً، يكون نافذاً على الجميع كما هو واضح، لكن الأحوال الشخصية تختلف، على تفصيل مذكور في الفقه.

وقد ذكر الفقهاء العظام ـ ومنهم الوالد ـ كثيراً من هذه المباحث في كتبهم المختلفة[23].

د- حرية التعبير والتظاهر مكفولة

النقطة الرابعة: يجب أن لا يحدث خلط بين حرية التظاهر والمظاهرات السلمية وحرية التعبير من جهة، وبين حرية إلغاء القوانين من جهة أخرى، يعني حتى لو قلنا بأن هنالك تسلسلاً في سلّم القيم، وأن مثل العدل هو أهم من الحرية، بمعنى أن الحرية لا تبرر الظلم، كظلم الوالد لولده أو ظلم الحاكم لشعبه، أو ظلم الإقطاعي لمزارعيه، أو غير ذلك.

لكن هذا لا ينفي أن تكون لهم حرية التعبير عن آرائهم بطريقة سلمية، فلو كان الحاكم على حق وكانت أكثرية الناس على الحق وعلى العدل أيضاً، وكانت هناك أقلية معارضة في الإطار الشرعي المعروف، الذي تطرق له الوالد e في كتاب موسوعة "الفقه: ج105-106 السياسة" وغيره.

فإن لهؤلاء الناس أن يعبروا بطريقة سلمية عن آراءهم، إذن كون رأيه خلاف قانون الدولة، لا يسوغ منعه من إظهار رأيه.

والحاصل: يجب أن نلاحظ مختلف مباحث باب التزاحم، في آخر الأصول، ومختلف مباحث الأهم والمهم، التي هي قاعدة عقلائية، لكن في الإطار الذي رسمه الشرع.

وأيضاً ينبغي أن نلاحظ مختلف التزاحمات الحالية والمستقبلية في عمود الزمن، كما يجب أن نلاحظ سائر القيم أفقياً.

هـ- إشراف أهل الخبرة والمراجع

النقطة الخامسة: إن تشخيص المصاديق في باب التزاحم، يعود إلى أكثرية مجالس أهل الخبرة من الفريقين، ومن الطائفتين، من علماء ومن أساتذة جامعة، وتحت نظر شورى المراجع.

السؤال: الحكم الشرعي بين العفو وإقامة الحد

هناك استفسار عن حادثة بني جذيمة، وما فعله خالد بن الوليد في ظل دولة الإسلام، فكيف نفهم اكتفاء النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بالبراءة من فعله[24]، دون إقامة الحد عليه، وما أثر ذلك في تنظيم الدولة الإسلامية اليوم؟.

الجواب:

على ذلك باختصار:

للحاكم الشرعي حق العفو، فحتى لو جنى جان، فإن للحاكم أن يعفو، ومن وجوهه أن على الحاكم أن يطبق هذه القوانين بالحكمة، فلعله يرى العفو أجدى وأنفع لاستقرار البلاد، ولعله يرى أن العفو أجدى وأنفع لهداية طائفة الشخص نفسه، ولعله إذا أجرى عليه الحد يخرج ويفسد في البلاد إفساداً ذريعاً.

نعم، الحاكم يجب أن يكون حاكماً شرعياً بالنص الإلهي أو بالوكالة العامة، وواجداً للمؤهلات والكفاءات المطلوبة في الحاكم، وأن يصل للحكم بالانتخابات، وتحت نظر شورى الفقهاء، لا بأن يكون العفو معلولاً لأهوائه الشخصية ـ ككون الجاني صديقاً له مثلاً ـ وفي رواية عن الرسول (صلى الله عليه وآله): (يا جبرئيل، إن الناس حديثو عهد بالإسلام، فأخشى أن يضطربوا ولا يطيعوا)[25]، إذن ملاحظة الأهم والمهم هو أمر عقلائي، ولكن له أطره الطبيعية.

السؤال: موقع الحرية في السلوك الإنساني

عن قول سيد الشهداء الإمام الحسين (سلام الله عليه) في يوم عاشوراء: (إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم)[26]، فإذا كان المجتمع في حال لم يكن له دين، ولم يكونوا يخافون يوم المعاد، فما هو معنى الحرية (فكونوا أحراراً) إذن؟.

الجواب:

إن مفهوم (أحراراً) في كلام الإمام الحسين (عليه السلام) يشكّل نقطة مفصلية، ونقطة انطلاق يطول البحث فيها، ولكن لِنُشِر إلى جانب من الجوانب فقط؛ فإن (كونوا أحراراً) يعني أحراراً من أسر الشهوات، وأحراراً من عبودية السلطان الجائر.

ولا يصح تفسير (الحرية) عبثاً كمن يقول: أنا حر في أن أسرق ـ لا سمح الله ـ أو حر في انتهاك حرمات الناس وأعراض الناس، أو حر في ظلم موظفيه.

كلا.. لاحق له في ذلك؛ لان الحرية في (كونوا أحراراً في دنياكم)، تعني أحراراً من أسر الشهوات، تعني الحرية من هوى النفس، والحرية من عبودية غير الله سبحانه وتعالى، والتحرر عن عبودية السلطان الجائر والخضوع له.

والحاصل: إن الحرية بهذا المعنى تعدُّ من المستقلات العقلية، وهي قيمة حقيقية من القيم، فإذا لم يكن سكان البلد مسلمين متدينين بالدين الإسلامي، أو كانوا مسلمين لكنهم لم يكونوا يخافون المعاد، كما لو كانوا مسلمين فساقاً ـ والعياذ بالله ـ أو كان الحاكم كذلك، فإن الإمام الحسين (عليه سلام الله وصلواته) يقول له: على الأقل كن حراً في دنياك، ولا تكن عبداً لهذه الأهواء من (قبقب وذبذب)، ولا تغصب أو تصادر أموال الناس لتصرفها على شهواتك وملذاتك في القصور الفاخرة.

إذن الحرية من الأهواء والشهوات، ومن غرائز الدكتاتورية والظلم والاستبداد أمر عقلائي وصحيح. وهذه هي الحرية بالمعنى الواسع الإنساني والإسلامي والعقلي.

بل نضيف: إذا كان هنالك بلد لا إسلام فيه، فإنه سيفتقد حقاً وصدقاً قوانين الإٍسلام في الزراعة وفي الاقتصاد وفي الصناعة التي تنهض بالبلد، فإن الحريات هي التي تحرر الطاقات، وتوفر للكفاءات مناخ الإبداع.

لذا نقول لهم مستلهمين من كلام سيد الشهداء (عليه سلام الله): (كونوا أحراراً في دنياكم)[27]، فهذه الحرية لو وفرتموها، كمثل حرية اتخاذ القرار وحرية إظهار الرأي، وحرية الحوار، وحرية التجارة والزراعة والصناعة، والحرية من القوانين الكابتة ومن الأهواء المضلة، ستكون لصالح بلدكم، ولصالح الحق والحقيقة.

والكل يشهد بأنه في أي مكان فسح المجال فيه لأهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام)، ولأتباع أهل البيت % لكي يعربوا عن معتقداتهم ويدافعوا عنها، بالحكمة والكلمة الطيبة فإن الحق تقدم.

ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ][28]، وفي الدول الغربية على سبيل المثال، يستطيع الإنسان المؤمن أن يستثمر الحريات النسبية أفضل استثمار، في الدعوة إلى الله وإلى الحق وإلى العدل، وإلى قوانين الإسلام كافة، في فروعها وفي تفريعاتها اللاحقة، والبحث في هذا الحقل طويل، نكتفي بهذا القدر منه.

نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق لنا جميعاً، لكي نكون من الذين يعملون بقوله تعالى: [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا].

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

* الفصل الثاني العاشر من كتاب ملامح العلاقة بين الشعب والدولة
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/arabic/author/10

.............................................
[1] نهج البلاغة: رقم53 ومن كتاب له (عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر.
[2] نهج‏البلاغة، الخطب: رقم3 ومن خطبة له (عليه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.
[3] روائع نهج البلاغة ـ جورج جرداق: ص83 الفاتحة العلوية.
[4] نهج البلاغة، الخطب: رقم30 ومن كلام له (عليه السلام) في معنى قتل عثمان.
[5] سورة النحل: 90.
[6] سورة النساء: 129.
[7] سورة النساء: 3.
[8] الكافي: ج5 ص362-363 باب فيما أحله الله عز وجل من النساء ح1.
[9] نهج البلاغة، الرسائل: رقم31 ومن وصية له (عليه السلام) للحسن بن علي (عليه السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
[10] قد يعترض على ذلك بالدور الإيجابي للتجنيد الإلزامي، في تعزيز الوحدة الوطنية، وصيانة المجتمع، والسلم الأهلي، ونبذ العنف المجتمعي، وصهر جميع شباب الوطن، للتعايش السلمي والمجتمعي والإنساني، والجواب:
أولاً: يمكن البحث في بدائل للتجنيد الإلزامي العسكري، لتأمين الاستعداد الوطني للشباب، وتأهيلهم الأخلاقي والجمعي، ليكونوا مواطنين صالحين غير رافضين للآخر، الشريك في الوطن، أو الدين، بعيدين عن التمييز الطائفي والعنصري، وثقافة العنف، وذلك من خلال (البديل المدني)، وفي ذلك تجارب لبعض الشعوب، إذ يزج الشباب عند عمر الجندية في برامج ثقافية وتأهيلية، وحتى من أجل تأمين المعارف والمهارات لهم، فيخرجوا منها مستعدين لمواجهة الحياة، ومؤهلين لسوق العمل، ومواطنين صالحين، لا ضرر فيهم للمجتمع، بل ضمانة لأمنه واستقراره ووحدته، دون أن يكونوا حطباً للقوة العسكرية الغاشمة، التي يناقشها المبحث.
وثانياً: إن تلك الإيجابيات ـ على فرض صحتها، إذ لا تتحقق غالباً كما هو المشاهد خارجاً نظراً للمناهج المتبعة ـ إنما تكون لو كانت الحكومة استشارية أو ديمقراطية، لا ما إذا كانت استبدادية إذ أن كل ذلك سيصب للتصفيق بحق الحزب الحاكم أو القائد الأوحد.
[11] سورة العلق:6-7.
[12] كالسباحة وتسلق الجبال وركوب الخيل والرماية، وحتى أنواع الرياضة المعاصرة.
[13] سورة الأنفال: 60.
[14] الكافي: ج5 ص49-50 باب فضل ارتباط الخيل وإجرائها والرمي ح12.
[15] مستدرك الوسائل: ج11 ص115 ب49 ح12573، مستدرك الوسائل: ج14 ص77 ب2 ح16140.
[16] الكافي: ج5 ص50 باب فضل ارتباط الخيل وإجرائها والرمي ح13.
[17] وسائل الشيعة: ج15 ص140 ب58 ح20166، وسائل الشيعة: ج19 ص251-252 ب2 ح24526.
[18] سورة الحج: 40.
[19] كالجيش الأردني الذي صنعه الضابط البريطاني المعروف، السير جون باغوت غلوب ((i) (صلى الله عليه وآله)ohn B(عليه السلام)got Glubb) المعروف باسم غلوب باشا، ولقبه أبو حنيك (16 أبريل 1897 - 17 مارس 1986).
[20] يمكن في هذا المبحث، في الإجابة على التساؤل حول إضعاف الجيش، في حالة تقليص حجم المنتسبين إليه. إن إمكانية الجيوش المعاصرة وقوتها، وقابليتها الدفاعية وحتى التعرضية، لا تحسب نسبة لحجمها وأعداد المنتسبين إليها، أي وفق معاملها الكمي، فتلك عقيدة قديمة، بل تحسب وفق قدراتها وقابليتها، التي لا تعتمد حصراً على الحجم والكم، وإنما على كيفية التجهيز والتسليح والقدرات الدفاعية وتطورها التقني النوعي، وهذا سيكون ضمانة لقابلية الجيش في تأمين الدفاع الخارجي، وتعويض النقص المقترح في المبحث، في حجمه وكم المنتسبين إليه، من خلال الكيف والنوع، أي ما يعرف بالقدرة القتالية، التي سوف لن تكون مؤثرة في قمع الشعب، لأنها مخصصة في أغراضها لصد التعرض والعدوان الخارجي، وفي الحروب النظامية حصراً، وفق نوعية التسليح والتجهيز فيها، فضلاً عن العقيدة العسكرية، التي سيجري إتباعها، وسوق (إستراتيجية) استخدام الموارد، وهذا سينسجم مع الآية الكريمة: [وَأَعِدُّوا لَـهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ] سورة الأنفال: 60، حيث عائدية [لَـهُمْ] للعدو الخارجي للوطن والإسلام، وليس الشعب.
[21] يراجع "شورى الفقهاء دراسة فقهية أصولية" للمؤلف، و"شورى الفقهاء المراجع" للشيخ ناصر الأسدي.
[22] سورة الأعراف: 157.
[23] يراجع ما كتبه الإمام الشيرازي H في موسوعة "الفقه: ج84-85 القضاء"، و"الفقه: ج101-102 الدولة الإسلامية"، و"الفقه: ج105-106 السياسة" وغيرها، التي تطرقت لهذا البحث في موسوعة الفقه المعروفة، والقواعد الفقهية للسيد البجنوردي وغيره، وأيضا قاعدة الإلزام ـ مخطوط ـ للمؤلف.
[24] مستدرك الوسائل: ج18 ص366-367 ب20 ح22971.
[25] جامع الأخبار: ص10 الفصل الخامس في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام).
[26] بحار الأنوار: ج45 ص51 بقية الباب 37.
[27] من الواضح أن هذا المعنى استلهام من كلمته (صلوات الله عليه) وليس تفسيراً لها، بل التفسير هو ما سبق، ويحتمل التمسك بالإطلاق، إلا أن الانصراف هو لما سبق.
[28] سورة النحل: 125.

اضف تعليق