q

جوزيف ليدوكس

 

نيويورك ــ عندما يريد الباحثون تقييم فعالية علاجات جديدة للقلق المرَضي، فإن النهج التقليدي يتلخص في دراسة الكيفية التي تتصرف بها الجرذان أو الفئران في مواقف غير مريحة أو مجهِدة. فالقوارض تجتنب المساحات المفتوحة الساطعة الإضاءة، حيث تصبح في البرية فريسة سهلة. ولهذا فإن ميلها الطبيعي في جهاز الاختبار هو البحث عن مناطق خافتة الإضاءة أو قريبة من الجدران. وكلما طال أمد بقاء الحيوان الخاضع للعلاج في مناطق يفتقر فيها إلى الحماية، كلما اعتُبِر العقار المستخدم أكثر فعالية في علاج القلق.

بيد أن العقاقير التي نتجت عن هذا النهج ليست في واقع الأمر فعّالة للغاية في جعل الناس يشعرون بقدر أقل من القلق. ولا ينظر المرضى أو المعالجون في الخيارات المتاحة ــ بما في ذلك البنزوديازيبينات مثل الفاليوم ومثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية مثل البروزاك والزولوفت ــ باعتبارها علاجات ملائمة للقلق. وبعد عقود من البحث، بدأت بعض شركات الأدوية الكبرى ترفع الراية البيضاء وتقلص الجهود الرامية إلى تطوير عقاقير جديدة مضادة للقلق.

بيد أننا لا نملك ترف التخلي عن البحث عن علاج لما يسمى اضطرابات القلق، والتي تشمل مشاكل تتعلق بكل من الخوف والقلق. تحدث مشاعر الخوف عندما يكون أحد مصادر الأذى قريباً أو من المحتمل أن يحضر، في حين تنطوي مشاعر القلق عادة على احتمال الأذى في المستقبل. وعلى مستوى العالم، يبلغ معدل انتشار اضطرابات القلق مدى الحياة نحو 15%، والتكاليف التي يتحملها المجتمع نتيجة لذلك هائلة. في أواخر تسعينيات القرن العشرين، أشارت التقديرات إلى أن العبء الاقتصادي المترتب على اضطرابات القلق تجاوز في الإجمال 40 مليار دولار أميركي. وتكاد يكون من المؤكد أن التكلفة الإجمالية أعلى كثيرا، لأن العديد من اضطرابات القلق لا يتم تشخيصها أبدا.

وعلى عكس الحدس البديهي، يتمثل السبب وراء عدم قدرة أغلب علاجات القلق الموصوفة عادة على علاج المشكلة الأساسية في أنها تعمل على النحو الذي ينبغي لها تماما ــ وفقاً للمعايير المستخدمة لتصميمها. ذلك أن أغلب العلاجات تستند إلى دراسات تستخدم الفئران أو الجرذان لجعل التعايش مع القلق أكثر سهولة. وما تفشل في تحقيقه هو أن تجعل الناس حقاً أقل خوفاً أو شعوراً بالقلق.

والسبب بسيط. ذلك أن أجهزة الدماغ التي تتحكم في الاستجابات السلوكية، في المواقف التي تنطوي على تهديد، متشابهة في القوارض والبشر، وتشمل مناطق أقدم في عمق الدماغ والتي تعمل على مستوى غير واع (العقل الباطن)، مثل الجسم اللوزي على سبيل المثال. ومن ناحية أخرى، تشمل الأجهزة التي تنتج خبرات واعية، بما في ذلك الشعور بالخوف والقلق، مناطق تطورية جديدة من القشرة المخية الحديثة المتطورة بشكل خاص في الدماغ البشري ولكن تطورها في القوارض ضعيف. وتعتمد المشاعر الواعية أيضاً على قدراتنا اللغوية الفريدة ــ قدرتنا على تصور وتسمية تجاربنا الداخلية. ومن المفيد أن نعلم أن اللغة الإنجليزية تحتوي على أكثر من ثلاثين كلمة للتعبير عن درجات الخوف والقلق: الانزعاج، والهم، والتوجس، والضجر، والضيق، والجزع، والارتياع، والهاجس، والعصبية، والتوتر، وهلم جرا.

نتيجة لهذا، وبرغم أن دراسة الحيوانات مفيدة في التنبؤ بالكيفية التي قد يؤثر بها الدواء على الأعراض غير الواعية التي يمكن السيطرة عليها والتي تحركها المثيرات التي تنطوي على تهديد، فإنها أقل فعالية عندما يتعلق الأمر بمشاعر الخوف والقلق الواعية. وقد تساعد الأدوية المتاحة لدينا المرضى الذين توقفوا عن الذهاب إلى العمل من أجل تجنب المواقف التي تثير الخوف أول القلق، مثل الأنفاق المزدحمة أو التعرض لإصدار الأحكام عليهم من قِبَل الأقران أو الرؤساء. وكما تصبح الجرذان الخاضعة للعلاج أقل تقييداً من الناحية السلوكية (أكثر قدرة على التسامح مع المساحات الساطعة المفتوحة)، يصبح البشر الخاضعون لعلاج القلق أكثر قدرة على العودة إلى وظائفهم. ولكن لأن الأدوية لا تعالج العمليات الدماغية الواعية بشكل مباشر فإن القلق ذاته لا يختفي في كل الأحوال.

وإذا كان لهذه العلاجات أن تصبح أكثر فعالية، فلابد أن ننتهج أساليب أكثر دقة. وسوف نحتاج إلى علاج أجهزة الدماغ التي تعمل على مستوى غير واع بشكل مختلف عن علاج تلك التي تنتج خبرات وتجارب واعية. ولا يعني هذا بالضرورة أدوية محسنة. ذلك أن الاستجابات غير الواعية أيضاً من الممكن علاجها عن طريق العلاج بالتعرض، حيث يقوم المعالج بتنظيم التفاعل المتكرر مع المثيرات التي تنطوي على تهديد من أجل تخفيف تأثيراتها النفسية.

وربما تعمل الاكتشافات الحديثة حول الكيفية التي تعمل بها أجهزة الدماغ الواعية وغير الواعية على تمكيننا من جعل العلاج بالتعرض أكثر فعالية. وتتلخص الفكرة الأساسية في أن الأعراض التي تنطوي على عمليات غير واعية لابد أن تُستَهدَف بشكل منفصل عن تلك التي تنطوي على عمليات واعية.

وأقترح التسلسل التالي: ابدأ بالتعرض غير الواعي (باستخدام التحفيز دون الواعي للالتفاف حول الأفكار والمشاعر الواعية التي قد تُثار فتتداخل مع عملية التعرض) لتخفيف استجابة مناطق من الدماغ مثل الجسم اللوزي. وبعد أن تصبح الأجهزة غير الواعية تحت السيطرة مباشرة، استخدم التعرض الواعي لعلاج الأعراض الواعية. وأخيرا، عليك بتوظيف المزيد من العلاجات النفسية التقليدية: التفاعلات اللفظية مع المعالج بهدف مساعدة المريض على العمل على تغيير معتقداته، وإعادة تقييم ذكرياته، وتشجيع نفسه على تقبل ظروفه، واكتساب استراتيجيات المواجهة والتغلب، وهلم جرا.

والمجال متاح أيضاً لاستخدام العقاقير في هذا النهج، ولكن ليس كحل طويل الأجل. بل يمكن استخدام العقاقير لجعل العلاج بالتعرض أكثر فعالية (وقد أظهر المستحضر الصيدلاني d-cycloserine أنه واعد بعض الشيء في هذا الصدد).

الواقع أن فعالية النهج الذي يأخذ بعين الاعتبار حقيقة مفادها أن أجهزة الدماغ المختلفة تتحكم في أعراض مختلفة لم تخضع للتقييم على النحو اللائق بعد، ولكن البحوث تشير إلى أن ذلك النهج لابد وأن يكون ناجحا. وهو أيضاً نهج لا يعتمد على التدخل العنيف ولن يتطلب سوى إعادة تطويع الإجراءات المستخدمة بشكل متكرر. ونظراً لحجم المشكلة، فلا ينبغي لنا أبداً أن نتقاعس عن البحث في كل اتجاه ممكن.

* أستاذ العلوم العصبية وعلم النفس، والطب النفسي للأطفال والمراهقين في جامعة نيويورك، ومدير معهد الدماغ العاطفي في معهد كلاين ناثان وجامعة نيويورك. وأحدث مؤلفاته كتاب استخدام الدماغ لفهم وعلاج الخوف والقلق.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق