q

يعتقد الدكتور (عبد الإله بلقزيز)، أن الخطاب الحداثي تعرض لنكستين خلال القرن الماضي، أرجع الأولى إلى عشريناته، بينما وضع العقدين الخمسيني والستيني زمناً للنكسة الثانية حيث انهيار المشروع القومي العربي.

وأنتجت النكستان ظواهر وفق معطيات متعددة، إذ تراجعت فكرة النهضة التي بدأت في القرن التاسع عشر، لتحل (الأصالة) بديلاً لها بآليات (الخلافة) على حساب الدولة الوطنية والحديثة، مستعيدةً - بحسب الدكتور بلقزيز - السياسة الشرعية لدى الماوردي وابن تيمية والقرافي.. الخ، ثم توالت الظواهر التي شهدت المد والجزر في صراع القديم والجديد.

المساحة الأكبر في خريطة هذا الصراع كانت في فترة الستينات، وقد غلب عليها الطابع الأدبي تقريباً مع ظلال للسياسة والاقتصاد، قبل أن تصعق نكسة حزيران 1967 الجميع، وتجعلهم في صدمة هائلة ترنح لها القوميون والماركسيون والليبراليون، وتعززت بانهيار نظام الشاه في ايران عام 1979، وماتلا تلك المرحلة من أحداث وحروب وانقلاب مفاهيمي لحد تلاشي العناوين وتكسر المبادئ، حتى وصولنا إلى راهننا الأكثر التباساً وصراعاً، مع دخول العالم الرقمي بقوة على الخط.

وتبدو إشكالية فهم الحداثة عند الحداثويين مشابهة إلى حد ما لإشكالية فهم الديمقراطية عند الديمقراطيين؛ لذلك تبدو المقاربة بين الإشكاليتين واردة وموضوعية. فالديمقراطيون اجتهدوا في الحديث عن الديمقراطية عبر الندوات المتلفزة والإذاعية، والكتابة عنها في الصحف والمواقع الالكترونية، وفي ذات الوقت يمارسون استبداداً فكرياً في التزمت في طرحه الرأي، ومصادرة المختلف حد السخرية منه، مايعكس صراعاً حاداً بين البنية الفكرية والسلوكية، فيكون صاحب الشأن " الديمقراطي " بحاجة إلى إعادة تأهيل، قبل أن يتم اعتباره أنموذجاً للتفلت من رقابة مفترضة يدعيها لتغطية الرماد المنثور على سلوكه المتعارض مع قيمه.

وأمام هذه الاشكاليات المتعلقة بفهم الحداثة، كيف يمكننا انتاج حداثة (بديلة)؟ حداثة تجعلنا متصالحين مع ذواتنا أولاً ومع مكونات تشكلنا الحضاري ثانياً، بحيث لانقع في الأخطاء التي وقع فيها السابقون على مختلف مايتبنونه من أفكار ورؤى.

نستطيع نحن الشرقيين إنتاج الحداثة التي تؤسس لبناء حضاري شريطة استيعابنا لخصوصيتنا والتمسك بها، ومواجهة الأفكار المنحرفة التي تحاول سلخنا عنها ونخص بذلك الخصوصية الدينية التي تحث على السلم، وتنبذ الحروب التي تعبث بمصير الإنسان وتقوده إلى السيء والمجهول، وتؤسس لمستقبل إنساني قائم على الكراهية والأحقاد المتناسلة بين الأجيال، والانتباه إلى مضاعفات هذه الحروب وآثارها.

إن التمسك بالسلم شرط أساسي من شروط إقامة الحداثة البديلة عن حداثة الصراعات والإيديولوجيات المتناحرة، الحداثة غير المنحرفة عن الخط الاجتماعي العام، والتي يعبر عنها المفكر الإسلامي السيد محمد الشيرازي بـ (الوئام بين الفطرة والسلوك) فيقول: "وقد اشتهر عند جماعة من الناس قديماً وحديثاً القول: (حشر مع الناس عيد)، بينما الحشر مع الناس المستقيمين عيد، أما الحشر مع المنحرفين فهو عزاء وضلال، أترى أن الإنسان إذا ذهب إلى أهل الشرق وحُشِرَ معهم، هل يمكنه أن يحشر نفسه مع أهل الغرب ... ؟! وهل يمكن أن يكون للإنسان عيدان: عيد إلى أقصى اليمين وعيد إلى أقصى اليسار؟ إن هذا هو مصداق أن ينفصم الإنسان عن نفسه بنفسه"1

إن هذا التفاوت بين داخل الإنسان وخارجه هو الذي يغذي السلوكيات المتناقضة التي تنتج بدورها أفكاراً متناقضة، والسبيل لقطع الطريق أمام هذا التفاوت وامتداده في جسد الأفكار والسلوكيات؛ هو الحرص على إبقاء العلاقة بين الفطرة الإنسانية والسلوك الإنساني، والتي تقدم الذهنية المتوقدة والمستعدة للإبداع.

الاعتدال في الحداثة البديلة

وبعد الحفاظ على حالة الوئام بين الفطرة والسلوك، ينبغي عدم إغفال المسارات الحداثية والتجديدية التي تجتاح عالمنا اليوم، والتعاطي معها على نحو لاينسف الثوابت القيمية، نتحدث هنا عن نقطة مهمة وهي نقطة الاعتدال؛ لأن التحديات التي تواجه الانسان اليوم؛ كفيلة بأن تجعل التكاتف في الجهود من ضرورات تأصيل الاعتدال كمشروع فكري لابد من المساهمة فيه بشكل يبتعد عن الفردانية في الطرح، والاعتماد على الجهد الجماعي ضمن إطار العمل المؤسسي الرصين.

ويشدد الإمام الشيرازي على ضرورة أن تتبنى المؤسسات التي تنشد الاعتدال عملية إيقاف المبادىء والسلوكيات التي تعمل بأجندات لنخر الجسد الانساني عبر ترويج أفكار الالحاد والحريات الفوضوية، وعدم الاكتفاء ببعض الأدوار الفردية كخطبة وعظية، أو مقال صحفي، أو بعض الاجراءات التي تقوم بها الدولة وفيها شيء من الشدة مايولد ردات فعل غاضبة ومتشنجة تأتي بنتائج عكسية، بل يدعو لثورة ثقافية مجتمعية كبرى تواجه هذه السلوكيات والمبادىء التخريبية.

من هنا قد نصل إلى أن الحداثة البديلة المنطلقة من فكر الإمام المجدد الشيرازي تمثل جوهر العلاقة بين الذات والمحيط؛ لذلك يركز في كل طروحاته على النصوص التي تمثل جوهر الفكر الاسلامي الذي ينتمي اليه كونها تكرس كل المفاهيم التي تقود إلى الحرية والعدل وغيرها من مكونات الحياة الحضارية، ولأنها تكشف الأقنعة التي تخفي أهدافاً تسعى لتحقيقها شبكات السياسة والاقتصاد المتاجرة بالوجود البشري من أجل تحقيق وغايات تتعلق بالأدلجة والنفوذ، بينما يركز هو على أهداف وغايات أكثر عمقاً تغوص في الحقائق الكبرى من خلال ثقافة حية يمثل التسامح بنيةً رئيسة لها، وهو عين ما يتوخاه الفكر الإسلامي المضيء.

ولأن شمولية مفهوم الاعتدال تعني أن لكل شيء مسارات إيجابية وسلبية؛ لابد أن تكون آليات الاعتدال واعية لهذه الشمولية، إذ لايمكن أن يتم غض النظر عن مسببات الدمار وجذورها الفكرية والإيديولوجية حتى يطلق علينا وصف المُعتدلين؛ لأن مثل هكذا اعتدال أعمى سيزيد من مساحة الخدر العقلي، ويقدم الحداثة بأقدام عرجاء لن تستطيع المواصلة.

-----------------
1: الإمام السيد محمد الشيرازي، عالم الغد .. قراءة متجددة لكتاب الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام، ص27

اضف تعليق