q

وليس المراد الحكومة الدينية بالمعنى القرن الوسطائي في الحكومات المسيحية، ولا بمعنى الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية، فإن تلك الحكومات أضافت على الاستبداد الدنيوي الاستبداد الديني، بمعنى أن كل ما كانوا يفعلونه من هتك الأعراض وسلب الأموال وإراقة الدماء وتعذيب الناس وسجنهم إلى غير ذلك كانوا يقولون إنه إرادة الله سبحانه، حالهم حال الجاهليين الذين كانوا ينسبون أعمالهم الشائنة إلى الله تعالى، كما ذكره القرآن الحكيم بقوله: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون) سورة الأعراف: 28 ـ 29.

بل بمعنى أن يكون الحاكم في عصر الغيبة متصفاً بالشروط المقررة في الإسلام من العلم والعدالة وغيرهما، وأن يكون أتى إلى الحكم باختيار الناس، وتبقى في الحكم باختيار الناس، وأن يكون شورى بين الفقهاء، وأن يعمل طبق أوامر الشريعة إلى غير ذلك مما فصلناه في الكتب المعنية بهذا الشأن.

وأهم ما يبنى عليه الحكومة الإسلامية الحريات الكثيرة المتواجدة في الإسلام وتساوي الناس، والمراد بالحريات ما يؤطر بإطار الشريعة بدون التعدي على حريات الآخرين، كما أن المراد بالتساوي أن كل الناس ينالون ما يشاؤون من القدرة والمال والعلم وغير ذلك من سائر مزايا الحياة في إطار الشريعة، أي لا يكون كسبه من المال الحرام أو صرفه في المال الحرام، أو أن يكون قد عمل الغش والاحتكار وفتح المواخير والربا وما أشبه ذلك، ولا تكون قدرته حاصلة بالاستبداد والسلاح والقفز على الحكم، ولا بقاؤه بسبب ذلك، ولا علمه علماً يحرف الناس عن الطريق السوي، ولا يكون علمه في ضرره ولا ضرر غيره من الناس، إلى غير ذلك من الشروط المقررة في الإسلام في الكتب المعنية بهذه الشؤون، وقد جمعها الله سبحانه وتعالى بقوله: (وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى) سورة النجم: 39، فسعي نفسه لنفسه وليس سعيه للآخرين ولا سعي الآخرين له.

وما ذكرناه يصلح أن يكون إطاراً بتعريف الحكومة الاستشارية الدينية.

لماذا الحكومة الاستشارية

إن الحكومة الاستشارية تأتي لفلسفة حيث يعطى كل إنسان حقه، ويتقدم المجتمع إلى الأمام، بالإضافة إلى أنها الصيغة المستفادة من الإسلام، وفي مثل الإطار الذي ذكرناه يبطل دعوى الحكومة الإسلامية للحكومات الاستبدادية ولو كانت بصبغة الدين.

كما أن بأصل الاستشارية ـ التي هي تعبير آخر عن الديمقراطية الغربية لكنها مع ملاحظة شروط الله سبحانه وتعالى ـ تبطل كل الحكومات التي تعمل باسم الشعب مما لم تأت إلى الحكم باختيار الناس في الأجواء الحرة، أو جاءت في الأجواء الحرة ثم بقيت بدون إرادة الناس.

وإلاّ فمجرد ادعاء أن الحكومة في صالح الناس وأنها تريد سعادتهم وخيرهم وما أشبه ذلك من الألفاظ لا تجعل جوهر الحكومة كذلك، وإلاّ فأبشع الحكومات كحكومة لينين وماو وهتلر وموسيليني وناصر وصدام ومن إليهم يدعون أنهم كذلك، مع العلم أن الحكومات التي حكمت باسم الدين ممن ألمعنا إليهم أو باسم الشعب كهؤلاء كانوا لا يتركون جريمة لا ضد الأقليات فحسب، بل ضد كافة الشعب إلاّ ارتكبوها، ما ملئوا صفحات التاريخ بشاعة وإثماً، من غير فرق بين من اضطهدوا شعبهم أو سائر الشعوب، كحكومة بريطانيا في الصين والهند، وحكومة أمريكا في فيتنام وإيران، وحكومة الاتحاد السوفيتي في الجمهوريات الإسلامية وأفغانستان، وحكومة فرنسا في الجزائر وجاد، إلى غيرهم في غيرهم.

والجامع بين كل هذه الحكومات الاستبدادية، دينية سميت أو غير دينية، أن الوصول إلى الحكم والعمل في أمور الناس لم يكونا بإرادة الناس واختيارهم ومصلحتهم.

وبالعكس في الحكومات الاستشارية يأتي الحاكم إلى الحكم باختيار الناس، ويعمل لمصلحة الناس، المصلحة التي هم يقولون إنها مصلحة لا المصلحة التي الحاكم يقول إنها مصلحة.

ويضاف في الدينية الاستشارية أن يكون في إطار الدين أيضاً، فالجوهر في الحكومة الدينية والحكومة الديمقراطية هو اختيار الناس أولاً وأخيراً، بالإضافة إلى التي ذكرناها في الحكومة الدينية من شروط الله سبحانه وتعالى، وكون القانون حسب شريعته تعالى، والتي تجعلها أقرب إلى الإنسانية والعقل والمنطق من الديمقراطية الغربية.

لكن غير ذلك ليس ديمقراطياً ولا دينياً، نعم الحكومة المنحرفة المصبوغة بالصبغة الدينية أسوأ الحكومتين، إذ الاستبدادية غير الدينية تقتل وتنهب وتهتك تحت عنوان واحد هو مصلحة الوطن، بينما الدينية المنحرفة تفعل كل ذلك تحت عنوانين عنوان الوطن وعنوان أن الله أمره بهذا، ولهذا مآسي الحكومة الدينية الاستبدادية أكثر من مآسي الاستبدادية الدنيوية فقط.

وإذ قد عرفت في الأمرين السابقين لزوم أن تكون الحكومة بصلاح الناس، وأن الصلاح هو الذي يراه الناس صلاحاً في الإطار الإسلامي لا ما تراه الحكومة أو يراه الناس صلاحاً بالنسبة إلى الحكومات الديمقراطية، وأن كل حكومة ليست كذلك فهي حكومة استبدادية، نقول:

ضرورة تغيير الحكام

إن من مختصات الحكومة الاستشارية دينية كانت أو غير دينية، تغيير الحكومة في كل فترة يراها الناس للتغيير صلاحاً، فإن هذا النوع من التغيير المقترن بالانتخابات الحرة للنواب يسبب:

أولاً: إن النائب لا يتمكن من تجاهل آراء الناس ويمشي في غير الطريق الذي يريده الناس.

وثانياً: الناس لا يريدون دائماً نوعاً خاصاً من الوكلاء، بل ينتخبون الأصلح فالأصلح، وبذلك يتقدم الاجتماع إلى الأمام.

هذا هو التغيير الذي يطرأ في الحكومات الاستشارية على كلا قسميها، وبالعكس التغيير في سائر الحكومات يكون:

أولاً: مع الاضطراب وإراقة الدماء والخراب، بينما رأينا كيف أن التغيير في الاستشارية يكون مع الهدوء والنظم.

وثانياً: المنابع المادية والمعنوية تتلف في التغيير الاستبدادي، بينما تلك المنابع تصرف في التقدم والصلاح والوصول إلى الهدف المنشود من السعة والرفاه والأمن والاقتصاد في الحكومة الاستشارية.

وثالثاً: تقترن طبيعة الانقلاب الاستبدادي بالإفراط والتفريط، ولذا قالوا (الثورة كالهرة تأكل أبناءها) وبذلك تنعقد نطفة انقلاب آخر في التغيير الاستبدادي، بينما ليس الأمر كذلك في الاستشاري، ولذا يكون التغيير الاستبدادي من السيئ إلى الأسوأ، بينما في الاستشاري يكون من الأحسن إلى الأحسن.

الاستشارية ورأي الأكثرية

ثم إن الاستشارية في الحكم معناها الأخذ برأي الأكثرية، وإلاّ فلا معنى للاستشارية، فإذا أعطى الناس الرأي في جو من الحرية وكانت هناك أكثرية وأقلية كما هي طبيعية في كل استشارية حرة لاختلاف آراء الناس واتجاهاتهم ومصالحهم، فلا يزعم زاعم أن رأي الأكثرية دائماً يوافق الصواب، ورأي الأقلية يوافق الخطأ، بل حيث لم يكن علاج أفضل من هذا اتخذ العقلاء هذه الطريقة للوصول إلى الأهداف، بالإضافة إلى أن ترجيح رأي الأقلية فيه نفس التساؤل، مضافاً إلى أنه مرجوح عند العقلاء، وأهل الحل والعقد الذي أشارت إليه الأدلة ينحون هذا المنحى أيضاً.

وقد ذكرنا مسألة الشورى في بعض كتبنا الفقهية وغيرها، ولذا فليس للإنسان أن يتصور أن من ينهزم في الانتخابات رأيه غير صحيح، وأن من فاز رأيه هو الصحيح، بل معنى ذلك أن آراء أولئك الأقلية لم تقبل في المجتمع، ولعلها تقبل في انتخابات مقبلة، كما كثيراً ما نرى هذا الأمر.

ومن المعلوم أن الأقلية في الحكومات الاستبدادية لهم وضع سيء، إذ المستبد وجهازه يرون أن الأقلية لا حق لهم في الحياة الحرة الكريمة، بل الحياة إطلاقاً.

بينما نرى في الحكومات الاستشارية عكس ذلك، فالفوز في الانتخابات للأكثرية ليس معناه الاستبداد بل معناه أن في الأكثرية الرأي الاستشاري لا الأقلية، مع أن الأقلية أيضاً حاضرون في كل الأصعدة التقنينية والقضائية والتنفيذية إلى غيرها حسب كفاءاتهم، كما أنهم متواجدون في كل الدوائر ولهم دورهم في تغيير تلك القوى.

أولاً: بالاقتراحات الجديدة.

وثانياً: بالنقد البناء لمناهج الدولة، مما يجعل الدولة دائماً في حالة حذر من الانسياق نحو العمل الإفراطي أو التفريطي.

وثالثاً: جعل الدولة في حالة تنافس دائمة مما يوجب رشد الدولة والأمة والأقلية على طول الخط.

* مقتطف من كتاب الفقه الحقوق للمرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الشيرازي

اضف تعليق