q

عندما ركّز نظره على الاسنان البيضاء وسط جيفة ذلك الحيوان النافق، لم يكن نبي الله عيسى، عليه السلام، يريد القول لاصحابه الذين تقززوا من المنظر، بأنه ينكر واقع الحال أمامه، ربما هو ايضاً تقزز في داخل نفسه من بشاعة المنظر ونتانة الرائحة، بيد ان رسالته في إظهار الايجابيات قبل إمعان النظر في السلبيات في الحياة.

ولطالما نسمع دعوات بهذا المضمون توصي بالتفاؤل ونبذ التشاؤم، او "النظر الى النصف الآخر من الكأس" وغيرها من المفردات ذات الدلالة، ومعظم هذه الدعوات نراها تصدر من جهات ذات مصالح كبيرة؛ مثل الاحزاب و التنظيمات النقابية والاتحادات و ايضاً مؤسسات الدولة؛ جميعاً يدعون الفرد لأن يكون ايجابياً في تفكيره وتعامله، والهدف واضح من "كلمة الحق" هذه؛ التخلّص من اسقاطات هذه النظرة السلبية وتأثيرها على الواقع والرأي العالم، ومن ثم التخلّص من اجراءات صعبة ومكلفة للتغيير حتى وإن كان فيها مصلحة الشعب برمته.

ولكن؛ الى جانب هذا، هنالك تأثيرات كبيرة لهذه النظرة السلبية على حياة الفرد الشخصية، ثم حياته ضمن النسيج الاجتماعي، فان الحديث الجاري على الألسن، بأن "لا فائدة من الحكومة" و"لافائدة من القانون"، و"لافائدة من القيم الدينية والاخلاقية" وغيرها كثير، ربما لا يترك التأثير الكبير على الجهات العليا والمؤثرة والحاكمة، بقدر ما تؤثر على حياة الانسان وتجعله امام طريق مسدود.

لنتصور هكذا شعور لدى طالب في الجامعة، او عامل في مصنع او ورشة فنية او تقنية، او أي انسان آخر يشكل جزءاً من هذا المجتمع، هل سيكون بامكانه الاسهام في خلق الاستقرار والتنمية والتقدم الذي ينشده الجميع؟

ان العكس هو الذي يحصل، حيث تتكرس التبعية للخارج في كل شيء، وتسود الفوضى وانعدام القيم والمعايير الصحيحة، ويكون بامكان أي انسان تبرير ما يقوم به، وحينئذ لا نستبعد بروز ظواهر اجتماعية شاذة، مثل جرائم الاحداث او الادمان، الى جانب الفساد المالي والاداري، كما هو شائع اليوم في بلاد عديدة، في مقدمتها العراق.

بمعنى إن اول ضحية يقدمها الانسان (الفرد والمجتمع)؛ فطرته السليمة التي يعبر عنها العلماء بالنوازع الايجابية التي يفترض انها "تشكل مصدر الطاقات الحيّة، ولا تظهر النوازع السلبية والعدوانية، إلا حين تعاق هذه الطاقات الحيّة والايجابية"، وهكذا يتحول الانسان من "كائن نامٍ بطبعه تدفعه نوازع ايجابية"، الى مصدر للمشاكل وسبباً للأزمات، وربما يتحول الى شماعة يأنس بها الكثير من الساسة الفاشلين لتعليق فشلهم عليها، على "أن المجتمع دائم الشكوى والتبرّم والمطالبة دون مقابل...."!.

ولعل هذا يدفعنا اليوم قبل غداً لأن نتحقق من نظرتنا الى الامور وتقييمنا للواقع الذي نعيشه، ودرجة القابلية فيه على التغيير نحو الاحسن.

يشير علماء النفس الايجابي الى ثلاث خطوات متلازمة على طريق خلق نظرة ايجابية من خلال تفكير ايجابي، لارتباط هذه المشكلة بالنفس الانسانية وما تنطوي عليه من قدرات كامنة مثل الحرية والارادة والعقل، فالنظرة لن تكون سلبية وسوداوية إلا بعد أن تنطلق من قاعدة تفكير مشابهة تماماً:

الخطوة الاولى: تعريف المشاكل على أنه هدف وباب للحل، وليس عامل معوّق او قيود تستدعي اليأس والاحباط، وإلا فان الشحّة والقصور والعجز والفساد وغيرها كثير تمثل واقع حال وتحصيل حاصل، بينما يختلف الوضع تماماً لو فكرنا في كيفية إزالة هذا القصور وذاك العجز، في الطالب او الاستاذ او الطبيب او المنهج او حتى المسؤول الكبير في الدولة.

الخطوة الثانية: صناعة البديل من الحلول المتاحة والخيارات الايجابية ذات الشأن في إزالة المشاكل والازمات.

الخطوة الثالثة: الحوافز؛ وهي دائماً ذات أثر نفسي بليغ ومردود سريع، لاسيما في شريحة الاطفال والفتيان والشباب الذين يحملون مشاعر مرهفة ينعشها الحب والود والمواساة،مثال ذلك الهدايا التشجيعية والوعود الممكنة وايضاً البحث لهم عن مسارات للنجاح، في مقدمتها تهيئة الاجواء النفسية والمادية والمعنوية داخل الأسرة – ما أمكن- للدراسة والمذاكرة، بل وحتى المساعدة في مراجعة المواد الدراسية – إن كانت ثمة قابلية علمية للأبوين- .

هذا المثل البسيط يصدق على الشاب الجامعي والطموح، كما انه يصدق ايضاً – في محيط الأسرة- على العلاقة الزوجية، وفي الخارج كذلك، في العلاقة بين افراد المجتمع، وصولاً الى العلاقة بين المجتمع والدولة.

كل هذا؛ هل يحصل بالتمنّي والترجّي؟

طبعاً كلا؛ إنما بحملة توعوية منظمة تشرف عليها مؤسسات وجماعات ثقافية تنشر الوعي الايجابي في اوساط المجتمع وتدعو لتوسيع المساحات البيضاء رغم السواد الحالك،ورغم شدة الازمات وتعقيدها.

ولمن يسأل عن امكانية نجاح الأمر، نؤكد أن ثمة طاقات حيّة وجبارة كامنة تحت ركام اليأس والاحباط والنظرة السوداوية، يكفي إثارة المشاعر الانسانية وحتى الوطنية في الاوساط الشبابية والطلابية لنجد تفجّر الطاقات والمواهب التي ربما لن تخطر على بال أحد.

وأجدني ملزماً بتوجيه اللوم الى بعض وسائل الاعلام – في العراق تحديداً- والتي تغذي نشراتها وتقاريرها بالمثيرات السلبية الباعثة على اليأس والقنوط، وتأتي في المقدمة المثيرات الجنسية، وتتفرع بين فضائح وجرائم وظاهر شاذّة، ثم الإمعان بشكل غريب في أخبار العنف والارهاب ثم إحباطات السياسة وهكذا... القائمة طويلة، بينما يندر نشر خبر عن ابتكار علمي او تقني لشاب يافع او طالب جامعي او أديب أو فنان واعد، في التمثيل او الخط او الرسم، وغير ذلك كثير.

نعم؛ عندنا في العراق الكثير من المواهب والطاقات والابداعات التي تقف خجولة وبعيدة وسط مساحة سوداوية واسعة من الواقع الذي نعيشه، تنتظر من يضع يده عليها ويضغط بقوة وشجاعة لتوسيع المساحة وإضاءة الأرجاء علّنا نتمكن من صياغة الحلول لأزماتنا ومشاكلنا.

اضف تعليق