q

يا ليتَ جور بني مروان دامَ لنا *** وليتَ عدل بني العباسِ في النارِ

هذا البيت يوجز حال المسلمين السيء وواقعهم المزري في العهد العباسي الأسود، فبعد أن ذاقوا الويلات من الأمويين طوال عهدهم الذي أهلك الحرث والنسل، فإذا بهم يلاقوا أضعاف ما لاقوه من المآسي والمحن من قبل العباسيين، وإذا كان الأمويون قد لطخوا تاريخهم الدموي بأبشع جريمة في تاريخ الإسلام ألا وهي جريمتهم في كربلاء بقتلهم سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين (عليه السلام) مع أهل بيته وأصحابه وحمل رؤوسهم من كربلاء إلى الكوفة فالشام وسبي نساء آل محمد, فإن العباسيين حذوا حذوهم وارتكبوا أكثر من جريمة بحق أهل البيت وأبنائهم وأتباعهم لا تقل عنها فظاعة ودموية.

لقد أكمل العباسيون سلسلة حلقات الإجرام بحق العلويين، فتاريخ الأسرة العباسية الإرهابية مليء بالمجازر الدموية منذ أن استلموا مقاليد الحكم وحتى سقوطهم، فقد افتتحت هذه الدولة بالدماء ولم تزل تنتعش على الدماء ولقب أول ملوكها بالسفاح لكثرة ما أسال من الدماء، وتابعه في السير على نهجه أخوه المنصور الذي مهد السبل لأخيه ومن جاء بعده في مسلسل جرائمهم حتى امتلأ تاريخهم الأسود خزياً وعاراً, والعجب كل العجب ممن يصفهم أو بعضهم بالصلاح والتقوى والزهد والصلاح وغيرها من الألقاب التي وضعها المؤرخون المتزلّفون ممن باعوا ضمائرهم وأصبحوا أبواقاً للسلاطين وتستّروا على جرائمهم مقابل الأموال.

مسلسل الجرائم

فالتاريخ أكبر شاهد على كذبهم وزيفهم ودحض أباطيلهم، وكيف تنطبق الصفات التي أطلقها هؤلاء المرتزقة على من ارتكب من المجازر ما تقشعر لها الأبدان ويندى لها جبين الإنسانية ابتداءً من قتل إبراهيم وأخيه محمد ذي النفس الزكية، إلى مجزرة بني الحسن الذين قتلهم المنصور دون أي ذنب، إلى مجزرة (فخ) التي وصفها الإمام موسى بن جعفر الكاظم بقوله: (لم يكن لنا بعد يوم الطف مصرع أعظم من فخ)، إلى المجازر الكثيرة التي ارتكبها العباسيون بحق أهل البيت خاصة، إضافة إلى جرائمهم التي تعد بالمئات بحق المسلمين عامة في سياستهم الدموية.

لقد اتجهت سياسة العباسيين توجّهاً عدائياً مفرطاً لأهل البيت، ومارست كل ما لديها من قوة وبطش للتنكيل بالعلويين والشيعة ومطاردتهم وزجّهم في السجون, وبلغت تلك السياسة من عدائها حداً جعلت صفة التشيع ـ ولو كانت منحولة ـ تجرّ على المتهم بها أشد أنواع التعذيب والقتل والمطاردة ومصادرة الأموال وكل ما يملكه المتهم (الشيعي), وكان أيسر على الرجل في ذلك الوقت أن يوصف بالزندقة والكفر والإلحاد ولا يوصف بالتشيع وهذه الحقيقة نراها جلية في وقائع التاريخ.

يقول عبد الرحمن بدوي في كتابه (من تاريخ الإلحاد في الإسلام ص37): (إنّ الإتهام بالزندقة في ذلك العصر كان يسير جنباً إلى جنب مع الانتساب إلى مذهب الرافضة)

ويذكر أبو الفرج الأصفهاني في (مقاتل الطالبيين) عن المنصور الدوانيقي قوله: (قتلت من ذريّة فاطمة ألفاً أو يزيدون، وتركت سيّدهم ومولاهم وإمامهم جعفر بن محمّد).

ويذكر الطبري في تاريخه: (إنّه ـ أي المنصور ـ ترك خزانة فيها رؤوس من العلويين، وقد علّق في كلّ رأس ورقة كتب فيها ما يستدلّ على اسمه واسم أبيه ومنهم شيوخ وشبّان وأطفال).

ويذكر المقريزي في (النزاع والتخاصم بين أمية وهاشم): (إن المنصور في سفرته الأخيرة قال لزوجة خليفته المهدي ـ ريطة ـ إذا أنا مت في سفرتي فلا تفتحي تلك الغرف وأشار إلى بعض الغرف في قصره إلا بحضور زوجك المهدي ثم سلمها مفاتيح الغرف، فظنت أنها تحتوي على التحف والأموال والمجوهرات, ويموت المنصور في سفرته فأخبرت زوجها الذي لم يختلف ظنه عن ظنها فلما فتحها وجد مئات الرؤوس في تلك الغرف وفي أذن كل رأس رقعة من النحاس عليها اسم صاحب ذلك الرأس ونسبه وكلهم من العلويين من ذرية فاطمة، فأمر المهدي بدفنهم في حفرة واحدة).

وقال اليعقوبي في تاريخه (ج3ص148): (إن الهادي أخاف الطالبيين خوفاً شديداً، وألحّ في طلبهم وقطع أرزاقهم وعطياتهم، وكتب إلى الآفاق يطلبهم).

ووصف الخوارزمي الرشيد في إجرامه بحق العلويين ومطاردتهم وقتلهم بأنه: (حصد شجرة النبوّة واقتلع غرس الامامة).

المتوكل

بلغ العباسيون أوج عدائهم وظلمهم وجورهم على العلويين في عهد المتوكل الذي أوصى عامله على المدينة: (أنه إذا بلغه عن أحد أحسن إلى علوي أو طالبي عاقبه ونكل به ليكون عبرة لغيره ومن كان بينه وبين أحد من الطالبيين خصومة فاقبل قوله بدون بينة ولا تسمع لطالبي بينة أو قولا)!!.

وهذه الوصية لم تكن لوالي المدينة حصراً، بل لكل ولاته في جميع الأمصار حيث ضيق المتوكل الخناق على الشيعة ومنعهم من زيارة قبر الحسين وتعداه إلى هدم القبر وفي ذلك يقول الشاعر (البسامي):

تاللهِ إن كانتْ اُميّة قد أتتْ *** قتلَ ابنَ بنتِ نبيِّها مظلوما

فلقد أتاهُ بنو أبيهِ بمثله *** هذا لعمركَ قبرهُ مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا *** في قتلهِ فتتبعوهُ رميما

ويقول الشاعر أبو فراس الحمداني في قصيدته (الشافية) المشهورة:

ما نال منهم بنوا حربٍ وإن عظمتْ *** تلك الجرائمُ إلا دون نيلكمُ

فقد واجه العلويون من ظلم المتوكل وجوره ما لا طاقة لبشر على تحمله والصبر عليه، وبلغ الاضطهاد والظلم النفسي والجسدي أقصى حدوده مما اضطرهم إلى القيام بثورات عديدة ضد هذا الظلم والطغيان العباسي مستمدين من سيد الشهداء وأبي الإباء مثلهم الأعلى في رفض الظلم والسير على نهجه في مقارعة التسلط والطغيان، والاستشهاد من أجل الحرية والكرامة، ومن أبرز هذه الثورات العلوية ضد المتوكل ثورة أبي الحسين يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام).

يحيى العلوي

ينتمي هذا البطل ذو الحسبين إلى علي بن أبي طالب من جهة أبيه، وإلى جعفر بن أبي طالب من جهة أمه، فهو شبل طالبي ورث الشجاعة والإباء من آبائه وأجداده، فهو أبو الحسين يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المكنى بـ (أبي الحسين الطالبي)، أما أمه فهي السيدة أم الحسن بنت عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، كان تقياً ورعاً فقيهاً شجاعاً أبياً من أعلام بني هاشم وساداتهم.

نال ظلم وجور المتوكل هذا البطل العلوي، وطالته همجية السلطة، وأُسيئت معاملته، ومُنعت عنه حريته، فرده عبد الله بن طاهر عن السفر إلى خراسان، وأمر المتوكل بضربه أمام قوم من شيعته، ثماني عشرة جلدةً، وحبسه ببغداد مدة، ثم أُطلق سراحه.

ولنستمع إلى أبي الفرج الأصفهاني وهو يذكر أسباب ثورة يحيى في كتابه (مقاتل الطالبيين) (ص367)، حيث يقول ما نصه: (كان ــ أي يحيى ــ خرج في أيام المتوكل إلى خراسان فرده عبد الله بن طاهر ، فأمر المتوكل بتسليمه إلى عمر بن الفرج الرخجي فسلم إليه، فكلمه بكلام فيه بعض الغلظة فرد عليه يحيى وشتمه، فشكى ذلك إلى المتوكل فأمر به فضرب درراً ، ثم حبسه في دار الفتح بن خاقان، فمكث على ذلك مدة ، ثم أطلق فمضى إلى بغداد فلم يزل بها حيناً حتى خرج إلى الكوفة فدعا إلى الرضا من آل محمد صلى الله عليه وآله، وأظهر العدل وحسن السيرة بها إلى أن قتل رضوان الله عليه، وكان رضي الله عنه رجلاً فارساً شجاعاً ، شديد البدن مجتمع القلب بعيداً من رهق الشباب وما يعاب به مثله).

الاستعداد للثورة

خرج يحيى ثائراً على السلطة العباسية في عهد المستعين وبدأ ثورته بزيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام) ودعا الناس والزوار إلى البيعة فبُويع على الرضا من آل محمد، واجتمع حوله الناس فسار بهم إلى قرية شاهي فأقام بها، فلما جُنّ الليل دخل الكوفة واستولى عليها وفتح السجون وأخرج من فيها، وطرد عامل الخليفة ورجاله من الكوفة، فكان أصحابه ينادون: أيها الناس أجيبوا داعي الله حتى أصبح معسكره عظيماً، وفي صباح اليوم الثاني فتح بيت المال وأخذ ما فيه لمدِّ الثورة، ودعا الصيارفة إلى إعادة ما بحوزتهم من مال السلطان فأخذه منهم، وأخذ يعد للثورة فجمع السلاح والرجال ومستلزمات الحرب وعسكر بالفلوجة لملاقاة الجيش العباسي، وكثر توافد الناس إليه من بغداد وغيرها لحبهم إياه وازادات قوته واتسعت شعبيته، حتى أصبح مصدر خطر على العباسيين ويهدد مصيرهم بالزوال.

انضم كثير من أهل بغداد إلى معسكر يحيى فقد كانوا يحبون يحيى لعدله واستقامته وورعه ولم يسبق لهم أن انضموا إلى ثورة علوية سوى ثورة يحيى وكان يرون فيه أفضل آل أبي طالب، سار يحيى إلى بني حمّان وفيها اجتمع بأهل بيته من العلويين الذين انضموا إلى ثورته، وفيما هو جالس مع أهل بيته وهو يتحدث مع أبي جعفر محمد بن عبيد الله الحسني المعروف بالأدرع، إذ سمعا أصوات سنابك الخيل تتقدم نحوهما فإذا هم فلول العباسيين في الكوفة توجهوا نحوه في محاولة أخيرة لاسترداد ما فقدوه من سلطتهم عليها، كانوا جماعة من جند الكوفة اجتمعوا من نواحيها بقيادة عبد الله بن محمود فصاح بعض ذيول العباسيين بيحيى: أيها الرجل أنت مخدوع ، هذه الخيل قد أقبلت.

وثب يحيى وجال على ظهر فرسه، ورد على كلام ذلك الشخص بالدم فضرب عبد الله بن محمود بسيفه على وجهه، كان وقع رعبها في قلبه أشد منها فهرب منهزماً وتبعه أصحابه منهزمين . ثم جمع يحيى أصحابه وسار بهم إلى الوازار ومنها إلى حنبلا، وانتشر أمر يحيى في البلاد ووصل إلى بغداد فأرسل محمد بن عبد الله بن طاهر ابن عمه الحسين بن إسماعيل لقتال يحيى مع جماعة من القواد، منهم: خالد بن عمران، وأبو السنا الغنوي ، وعبد الرحمن بن الخطاب المعروف بـ (وجه الفلس) ، وعبد الله بن نصر بن حمزة ، وسعد الضبابي.

الاصطدام

سار الحسين بن إسماعيل بجيشه إلى الكوفة، ودخلها وبقي فيها أياماً ثم خرج منها قاصداً يحيى، وأبقى وجه الفلس على تخومها لمنع يحيى من دخولها، أما يحيى فقد سار إلى الكوفة فمانعه وجه الفلس من دخولها فقاتله يحيى قتالاً مستميتاً وشتت جيشه فانهزم وجه الفلس فلم يتبعه يحيى.

عاد وجه الفلس إلى الحسين بن إسماعيل في شاهى وانضم إليه واستعدا للمواجهة، كما أشار أصحاب يحيى عليه بالهجوم على الحسين بن إسماعيل، كان في جيش يحيى رجل اسمه الهيضم بن العلاء العجلي وكان قد انضم إلى يحيى مع عدد من أقربائه وعشيرته في اليوم الذي دارت فيه المعركة المصيرية وقد أصابه وقومه التعب حتى وصلوا إليه، فكان انضمامه مصدر شؤم وإحباط لجيش يحيى، فحين التقى الجيشان كان الهيضم أول من انهزم في جيش يحيى ففتح الباب للكثير بعده للإنهزام، وقيل إن الحسين بن إسماعيل كان قد استدرجه وأرسله ليحبط معنويات جيش يحيى ورغبه في الأموال وقيل: بل انهزم للتعب الذي لحقه.

ويذكر أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين رواية عن علي بن سليمان الكوفي عن أبيه جاء فيها: (اجتمعت انا والهيضم يوماً فتذاكرنا أمر يحيى فحلف بالطلاق الثلاث إنه لم يكن له في الهزيمة صنع، وإنما كان يحيى رجلاً نزقاً في الحرب، فكان يحمل وحده فيرجع فنهيته عن ذلك فلم يقبل، وحمل مرة كما كان يفعل فبصرت عيني به وقد صرع في وسط عسكرهم فلما رأيته قد قتل انصرفت بأصحابي).

الشجاعة الهاشمية

إن من بلادة المؤرخين أن يعتمدوا حكم وقياس الأدنى على الأعلى، فمن العجيب أن يذكر هذا القول من قبل الهيضم الجبان الذي لم يكتف بالهرب بل رمى يحيى بالنزق!! وحاشا يحيى من ذلك، بل هو كما قال المتنبي:

عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ *** وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ

وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها *** وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ

والحقيقة إن الهيضم تحدث عن نفسه الجبانة فوصف يحيى بالنزق وليس بالشجاعة التي تحلى وعرف بها وإذا كان الهيضم قد وصف يحيى بالنزق، فقد وصفت قريش علياً بن أبي طالب بأن لا علم له في الحرب وهو أبو الحرب وسيدها كما قال (عليه السلام): (لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إنَّ ابْنَ أَبِى طَالِبٍ رَجُلٌ وَلكِنْ لاَ عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ. للّهِ أَبُوهُمْ! وَهَلْ أَحَدٌ مَنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاسا وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّى؟ لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ، وَهَا أَنَاذَا قَدْ ذَرِّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ. وَلكِنْ لاَ رَأىَ لَمِنْ لاَ يُطَاعُ).

لم يعبأ يحيى بهزيمة الهيضم ومن تبعه بل كان مصمِّماً على القتال حتى لو بقي وحده مفضلاً الشهادة في سبيل الله على البقاء مع أعداء الله والموت بعز على حياة الذل والخنوع، وقد روى محمد بن الحسين بن السميدع قوله: قال لي عمي: ما رأيت رجلاً أورع من يحيى بن عمر، أتيته فقلت له : يا بن رسول الله لعل الذي حملك على هذا الأمر الضيقة، وعندي ألف دينار ما أملك سواها فخذها فهي لك، وآخذ لك من إخوان لي ألف دينار آخر، قال : فرفع رأسه ثم قال : فلانة بنت فلان ــ يعني زوجته - طالق ثلاثاً ، إن كان خروجي إلا غضباً لله عز وجل : فقلت له : امدد يدك ، فبايعته وخرجت معه)، كما خرج مع يحيى وجوه أهل الكوفة وأشرافها وفضلائها، منهم أبو محمد عبد الله بن زيدان البجلي الذي كان أحد فرسان أصحابه.

الحرب

في ليلة الأثنين الثالث عشر من رجب سنة (250هـ/864م)، دارت معركة حامية بين أتباع يحيى والجيش العباسي بقيادة محمد بن عبد الله بن طاهر قرب الكوفة دامت يوماً كاملاً سقط فيها كثير من القتلى من الفريقين واستمرت حتى آخر الليل فلما طلع الفجر حتى بان التقهقر على أتباع يحيى لكثرة الجيش العباسي وقوة معداته الحربية فيما كان أكثر أتباع يحيى عزلاً من السلاح لقلته ولكن ذلك لم يثنِ يحيى عن عزمه واستماتته وإصراره على القتال حتى آخر رمق فبقي مع قلة من أصحابه والتف حوله الجيش العباسي فطعن في ظهره فقتل، وقطع رأسه وأخذ إلى المستعين في بغداد.

قاتل يحيى كما قاتل آباؤه الصيد بكل شجاعة وإقدام، وأقبل على الموت ولم يدبر ولم يزل يقاتل حتى قتل وقطع رأسه، فأخذ سعد الضبابي رأسه، وجاء به إلى الحسين بن إسماعيل، فتعرفوا على يحيى بصعوبة لكثرة ما أصيب من الجراح في وجهه، ولم يصدق أهل الكوفة قتل يحيى ولما تحققوا من قتله ارتفعت أصوات البكاء والعويل من دور الكوفة فيما كان الحسين بن اسماعيل يغذ السير إلى بغداد ومعه رأس يحيى.

في بغداد

كان لقتل يحيى صدى كبيراً في بغداد واستنكر الناس قتله أشد الإنكار، فما إن دخل الحسين بن إسماعيل بغداد حتى استقبله أهلها بصيحات الإستنكار والتنديد فكانوا يصيحون: إن يحيى لم يقتل، وشاع ذلك في الشوارع حتى كان الناس يصيحون في الطرقات: ما قتل وما فر ، ولكن دخل البر، ولما أدخل رأس يحيى إلى بغداد دخل المتزلفون على محمد بن عبد الله بن طاهر يهنئونه بـ (الفتح العظيم)، ولكن ليس كل من دخل عليه كان من هؤلاء المنافقين.

الجعفري

دخل على محمد بن عبد الله بن طاهر فيمن دخل أبو هاشم داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وكان شريفاً شجاعاً لسناً لا تؤخذه في الحق لومة لائم ولا يهاب سطوة السلطة مهما استبدت ولا يبالي بغضب الخلفاء وأتباعهم بقول الحق وصفه المسعودي في مروج الذهب بقوله: (ولم يكن يعرف في ذلك الوقت أقعد نسبا في آل أبي طالب وسائر بني هاشم وقريش منه، وكان ذا زهد وورع ونسك وعلم، صحيح العقل سليم الحواس منتصب القامة) فلما دخل على ابن طاهر قال له: إيها الامير ، قد جئتك مهنئاً بما لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله حياً لعزيته فيه ، فوجم محمد لهذا القول وألجم وسكت، فخرج أبو الجعفري وهو يقول:

يا بني طاهر كلوه وبيّا *** إنّ لحمَ النبيِّ غيرُ مريّ‏ِ

إنّ وتراً يكون طالبه اللّه‏ *** لوترٌ نجاحه بالحريّ‏

الأسرى

لم يترك العباسيون بائقة أو وصمة أو جريمة ارتكبها الأمويون دون أن يأتوا بمثلها أو بأبشع منها، فلا ينتهي حقدهم على الشخص الذي يعادي دولتهم بقتله، بل يتعدى ذلك إلى جثته وأهله وكل ما يتعلق به وينتسب إليه فيتفننون في التنكيل والتلاعب بجثته ويذيقون أهله سوء العذاب حتى وإن كانوا لم يشتركوا في العمل الذي قام به ضده السلطة فجريمتهم في نظر السلطة هي انتسابهم إليه.

فبعد مقتل يحيى وأصحابه وحمل رؤوسهم إلى بغداد، أمر محمد بن عبد الله بن طاهر بإحضار أخت يحيى ونسائه وحرمه وأهل بيته من خراسان، فتجددت معهن واقعة كربلاء حيث قطعوا كل هذه المسافة وهم (يساقون حفاةً سوقاً عنيفاً فمن تأخر ضربت عنقه)، ويصف حالهم أبو الفرج في مقاتل الطالبيين بقوله: (وأدخل الأسارى من أصحاب يحيى إلى بغداد ، ولم يكن فيما رؤي قبل ذلك من الأسارى أحد لحقه ما لحقهم من العسف وسوء الحال، وكانوا يساقون وهم حفاةً سوقاً عنيفاً فمن تأخر ضربت عنقه).

بعد هذا التعذيب النفسي والجسدي والشدائد والأهوال التي تعرض لها آل النبي أمر المستعين بإطلاق سراحهم ولكن ليس كلهم، فقد استثني من هذا الإطلاق اسحاق بن جناح صاحب شرطة يحيى بن عمر الذي أودع السجن ولم يزل محبوساً حتى مات، فلما سمع محمد بن عبد الله بن طاهر بموته ثارت كوامن الحقد في قلبه فكتب إلى الحرس (يدفن الرجس النجس إسحاق بن جناح مع اليهود ، ولا يدفن مع المسلمين ، ولا يصلى عليه ، ولا يغسل ، ولا يكفن) !!! فأخرج بثيابه ملفوفاً على نعش حتى جاءوا به إلى خربة فطرح على الأرض وألقى عليه حائط!!!!

صدى الثورة

أثار استشهاد يحيى عاصفة من الغضب الشعبي العارم على السلطة العباسية، وصل إلى حد الجهر بالتنديد بمقتله واستنكار هذا الفعل المشين، ويلاحظ من خلال كثرة المراثي التي رثي بها الفورة التي أثارت الشعراء الذين تأثروا بهذا الجو الحزين حتى قيل: (ما سبق أن أحداً ممن قتل في الدولة العباسية من آل أبي طالب رُثي بأكثر مما رُثي به يحيى ولا قيل فيه الشعر بأكثر مما قيل فيه) .

ومن أشهر المراثي مرثية ابن الرومي والتي تبلغ (111) بيتاً يقول منها:

أمامكَ فانظرْ أيَّ نهجيكَ تنهجُ *** طريقانِ شتى مستقيمٌ وأعوجُ

ألا أيُّهذا الناس طالَ ضريرُكم *** بآلِ رسولِ اللهِ فاخشوا أو ارتجوا

أكلُّ أوانٍ للنبيِّ محمَّدٍ *** قتيلٌ زكيٌّ بالدماءِ مضرَّجُ

تبيعونَ فيه الدينَ شرُّ أئمةٍ *** فللهِ دينُ اللهِ قد كادَ يمرجُ

لقد الحجوكمْ في حبائلِ فتنةٍ *** وللملحجوكمْ في الحبائلِ ألحجُ

بنو المصطفى كم يأكلُ الناسُ شلوَكُم *** لبلواكمُ عما قليلٌ مفرِّجُ

أما فيهمُ راعٍ لحقِّ نبيهِ *** ولا خائفٌ من ربِّهِ يتحرَّجُ

لقد عمهوا ما أنزلَ اللهُ فيكمُ *** كأنَّ كتابَ اللهِ فيهم مُمَجمجُ

ألا خابَ من أنساهُ منكمْ نصيبه *** متاعٌ من الدنيا قليلٌ وزبرجُ

أبعدَ المكنى بالحسينِ شهيدُكم *** تُضاءُ مصابيحُ السماءِ فتسرُجُ

لنا وعلينا، لا عليه ولا له *** تسجسجُ أسرابُ الدموعِ وتنشجُ

وكيف نُبَكِّي فائزاً عند ربِّه *** له في جنانِ الخلدِ عيشٌ مُخرفجُ

فإن لا يكنْ حياً لدينا فإنه *** لدى الله حيٌّ في الجنانِ مُزوَّجُ

وقد نالَ في الدنيا سناءً وصيتةً *** وقامَ مقاماً لم يقمهُ مُزَلّجُ

شوىً ما أصابتْ أسهمُ الدهرِ بعدَه *** هوى ما هوى أو ماتَ بالرملِ بحرجُ

وكنّا نرجِّيهِ لكشفِ عمايةٍ *** بأمثالهِ أمثالها تتبلّجُ

فساهمنا ذو العرشِ في ابنِ نبيِّهِ *** ففازَ به والله أعلى وأفلجُ

مضى ومضى الفرّاط من أهل بيتهِ *** يؤمُّ بهمْ وردَ المنيةِ منهجُ

فأصبحتُ لاهمْ أبسأوني بذكره *** كما قال قبلي في البسوءِ مؤرّجُ

ولا هو نسّاني أسايَ عليهمُ *** بلى هاجه ، والشجوُ للشجوِ أهيجُ

أبيتُ إذا نامَ الخليُّ كأنّما *** تبطنُ أجفاني سيالٌ وعوسجُ

أيحيى العلا لهفي لذكراكَ لهفةً *** يباشرُ مكواها الفؤادُ فينضجُ

أحينَ تراءتكَ العيونُ جلاءَها *** واقذاءَها أضحتْ مراثيكَ تُنسجُ

بنفسي وإن فاتَ الفداءُ بكَ الردى *** محاسنكَ اللاتي تمخُّ فتنهجُ

لمنْ تستجدُ الأرضُ بعدكَ زينةً *** فتصبحُ في أثوابِها تتبرَّجُ

سلامٌ وريحانٌ وروحٌ ورحمةٌ *** عليكَ وممدودٌ من الظلِّ سجسجُ

ولا برحَ القاعُ الذي أنتَ جارُه *** يرفُّ عليهِ الأقحوانُ المفلّجُ

ويا أسفي ألا تردَّ تحيةً *** سوى أرجٍ من طيبِ رمسِكَ يأرجُ

ألا إنَّما ناحَ الحمائمُ بعدما *** ثويتَ وكانتْ قبلَ ذلكَ تهزجُ

أذمُّ إليكَ العينَ إن دموعَها *** تداعي بنارِ الحزنِ حينَ توهَّجُ

وأحمدُها لو كفكفتْ من غروبِها *** عليكَ وخلتْ لاعجَ الحزنِ يلعجُ

وليسَ البُكا أن تسفحَ العينُ إنَّما *** أحرُّ البكائينِ البكاءُ المولّجُ

أتمنعُني عيني عليكَ بعبرةٍ *** وأنتَ لاذيالِ الروامسِ مُدرَجُ

فإني إلى أن يدفنُ القلبُ داءَه *** ليقتلني الداءُ الدفينُ لأحوجُ

عفاءٌ على دارٍ ظعنتَ لغيرِها *** فليسَ بها للصالحينَ معرَّجُ

ألا أيَّها المستبشرونَ بيومِه *** أظلتْ عليكمْ غمَّةٌ لا تفرَّجُ

أكلكمُ أمسى اطمأنَّ مهادُه *** بأنَّ رسولَ اللهِ في القبرِ مُزعَجُ

فلا تشمتوا وليخسأ المرءُ منكمُ *** بوجهٍ كأنَّ اللونُ منه اليرندجُ

فلو شهدَ الهيجا بقلبِ أبيكمُ *** غداةَ التقى الجمعانِ والخيلُ تُمعَجُ

لأعطى يدَ العاني أو ارمدَّ هارباً *** كما ارمدَّ بالقاعِ الظليمِ المُهيَّجُ

ولكنه ما زال يَغشى بنحرِه *** شبا الحربِ حتى قالَ ذو الجهلِ أهوجُ

وحاشا له من تلكمُ غيرَ أنَّه *** أبى خطةَ الأمرِ التي هي أسمجُ

وأينَ به عن ذاكَ ؟ لا أينَ إنه *** إليه بعرقيهِ الزكيينِ مُحرَّجُ

كدأبِ عليٍّ في المواطنِ قبلَه *** أبي حسنٍ ، والغصنُ من حيثُ يخرجُ

كأنِّي به كالليثِ يحمي عرينَه *** وأشبالُه لا يزدهيهِ المُهجهَجُ

كأنِّي أراهُ والرماحُ تنوشُه *** شوارعَ كالأشطانِ تُدلى وتُخلجُ

كأنِّي أراهُ إذ هوى عن جوادِه *** وعفِّرَ بالتربِ الجبينِ المُشجَّجُ

فحبَّ به جسماً إلى الأرضِ إذ هوى *** وحبَّ بها روحاً إلى اللهِ تعرُجُ

أأرديتمُ يَحيى ولم يُطوَ أيطلٌ *** طراداً ولم يُدبرْ من الخيلِ مَنسجُ

تأتّتْ لكم فيه مُنى السوءِ هينةً *** وذاكَ لكم بالغيِّ أغرى وألهجُ

تمدُّونَ في طغيانِكم وضلالِكم *** ويستدرجُ المغرورُ منكمْ فيُدرَجُ

أجنُّوا بني العباسِ من شنآنِكمْ *** وشدّوا على ما في العيابِ وأشرجُوا

وخلّوا ولاةَ السوءِ منكمْ وغَيِهمْ *** فأحرَّ بهمْ أن يغرُقوا حيثُ لُجِّجُوا

نظارِ لكمْ أنْ يرجعَ الحقَّ راجعٌ *** إلى أهلِه يوماً فتشجُوا كما شُجُوا

على حين لا عذري لمعتذريكمُ *** ولا لكمُ من حجةِ اللهِ مَخرَجُ

فلا تلقَحوا الآن الضغائنَ بينكمْ *** وبينهمُ إن اللواقحَ تُنتِجُ

غررتمْ إذا صدقتمُ إن حالةً *** تدومُ لكمْ والدهرُ لونانِ أخرجُ

لعلَّ لهمْ في منطوى الغيبِ ثائراً *** سيسمو لكم والصبحُ في الليلِ مُولجُ

بمجرٍ تضيقُ الأرضُ من زفراتِهِ *** له زجلٌ ينفي الوحوشَ وهزمَجُ

أذا شيمَ بالأبصارِ أبرقَ بيضُه *** بوارقَ لا يسطيعهنَّ المُحمَّجُ

توامضُه شمسُ الضُّحى فكأنَّما *** يرى البحرَ في أعراضِهِ يَتموَّجُ

له وقدةٌ بين السماءِ وبينَه *** تلمُّ به الطيرُ العوافي فتهرُجُ

إذا كرَّ في أعراضِهِ الطرفُ أعرضتْ *** حراجٌ تُحارُ العينُ فيها فتحرُجُ

يؤيِّدُه ركنانِ ثبتانِ : رجله *** وخيلٌ كأرسالِ الجرادِ وأوثجُ

عليها رجالٌ كالليوثِ بسالةً *** بأمثالِهم بُثنى الأبىُّ فيعنجُ

تدانوا فما للنقعِ فيهمْ خصاصةً *** تنفّسه عن خيلهمْ حينَ تُرهَجُ

فلو حصبتهم بالفضاءِ سحابةً *** لظلَّ عليهم حصبُها يتدَحرَجُ

كأنَّ الزجاجَ اللهذمياتِ فيهمُ *** فتيلٌ بأطرافِ الرُّدينيِّ مُسرجُ

يودُّ الذي لاقوهُ أن سلاحَهُ *** هنالكَ خلخالٌ عليهِ ودُملجُ

فيدركَ ثارَ اللهِ أنصارُ دينِهِ *** وللهِ أوسٌ آخرونَ وخَزرجُ

وتظعنُ خوفَ السبيِّ بعدَ إقامةٍ *** ظعائنُ لم يضربْ عليهنَّ هودجُ

ويقضي إمامُ الحقِّ فيكمْ قضاءَه *** تماماً وما كلُّ الحواملِ تُخدَجُ

وقد كانَ في يحيى مذمِّرُ خطةً *** وناتجُها لو كانَ في الأمرِ مُنتجُ

هنالكمُ يُشفي تبيُّغِ جهلكمْ *** إذا ظلّتِ الأعناقُ بالسيفِ تُودَجُ

محضتكمُ نصحي وإنيَّ بعدَها *** لأعنفَ فيما ساءَكمْ وأهملجُ

مهٍ لا تعادُوا غُرَّة البغيِّ بينَكم *** كما يتعادى شعلةَ النارِ عُرفجُ

أفي الحقِّ أن يَمسوا خِماصاً وأنتمُ *** يكادُ أخوكمْ بِطنةً يتبعَّجُ

تمشّونَ مختالينَ في حجراتِكمْ *** ثقالُ الخُطا أكفالكمْ تترجرَجُ

وليدُهم بادي الطوى ووليدُكم *** من الريفِ ريَّانُ العظامِ خَدَلّجُ

تذودونَهم عن حوضِهم بسيوفِكُم *** ويشرعُ فيه أرتبيلٌ وأبلجُ

فقد ألجمتهمْ خيفةَ القتلِ عنكمُ *** وبالقومِ حاجٌ في الحيازيمِ حُوَّجُ

بنفسي الألى كظتهمُ حسراتُهم *** فقد علزوا قبل المماتِ وحشرجُوا

ولم تقنعوا حتى استثارتْ قبورَهم *** كلابُكم منها بهيمٌ وديزجُ

وعيَّرتموهمْ بالسوادِ ولمْ يَزلْ *** من العربِ الأمحاصِ أخضرُ أدعجُ

ولكنكمْ زرقٌ يزينُ وجوهَكم *** بنى الرومِ ، ألوانٌ من الرومِ نُعَّجُ

لئنْ لمْ تكنْ بالهاشميينَ عاهةٌ *** لما شكلكمْ تاللهِ إلا المعلهَجُ

بآيةِ ألا يبرحَ المرءُ منكمُ *** يكبُّ على حرِّ الجبينِ فيعفَجُ

يبيتُ إذا الصهباءُ روَّتْ مشاشَه *** يساورُه علجٌ من الرومِ أعلجُ

فيطعنُه في سبَّةِ السوءِ طعنةً *** يقومُ لها من تحتهِ وهو أفحجُ

لذاكَ بني العباسِ يصبرُ مثلكم *** ويصبرُ للموتِ الكميُّ المُدَجَّجُ

فهلْ عاهةٌ إلّا كهذي وإنكمْ *** لأكذبُ مسؤولٍ عن الحقِّ يلهجُ

فلا تجلسوا وسطَ المجالسِ حُسَّراً *** ولا تركبُوا إلّا ركائبَ تُحدَجُ

أبى الله إلا أن يطيبُوا وتخبثُوا *** وأن يسبقوا بالصالحاتِ ويُفلجُوا

وان كنتمُ منهمْ وكانَ أبوكمُ *** أباهمْ فإنَّ الصفوَ بالرنقِ يُمزَجُ

أروني امرأً منهمْ يزنِ بأبنةٍ *** ولا تنطقوا البهتانَ فالحقُّ أبلجُ

لعمري لقد أغرى القلوبَ ابنُ طاهرٍ *** ببغضائكمْ ما دامتِ الريحُ تنأجُ

سعى لكمُ مسعاةَ سوءٍ ذميمةٍ *** سعى مثلها مستكرَهُ الرجلِ أعرجُ

فلنْ تُعدَموا ما حنَّتِ النيبُ فتنةً *** تحشّ كما حشَّ الحريقُ المؤجَّجُ

وقد بدأتْ لو تزجرونَ بريحِها *** بوائجُها من كلِّ أوبٍ تُبَوَّجُ

بني مصعبٍ ما للنبيِّ وأهلِهِ *** عدوٌ سواكمْ أفصحوا أو فلجْلجُوا

دماءُ بني عباسِكمْ وعليهم *** لكم كدماءِ التركِ والرومِ تُهرجُ

يلي سفكَها العورانُ والعرجُ منكمُ *** وغوغاءكم جهلاً بذلكَ تبهجُ

وما بكمُ أن تنصروا أولياءَكمْ *** ولكنْ هناتٍ في الصدورِ تأجَّجُ

ولو أمكنتكمْ في الفريقينِ فرصةً *** لقد ظهرتْ أشياء تلوى وتحنجُ

إذنْ لاستقدتمْ منهما وترَ فارسٍ *** وإن ولياكمْ فالوشائجُ أوشجُ

أبى أن تحبوهم يدُ الدهرِ ذكركَم *** لياليَ لا ينفكُّ منكمْ متوَّجُ

وإني على الإسلامِ منكمْ لخائفٌ *** بوائقَ شتى بابُها الآنَ مُرتَجُ

وفي الحزمِ أن يستدركُ الناسُ أمرَكم *** وحبلهمُ مستحكمُ العقدِ مُدمجُ

نظارِ فإنَّ اللهَ طالبُ وترهِ *** بني مصعبٍ لن يسبقَ اللهَ مُدلجُ

لعلَّ قلوباً قد أطلتمْ غليلَها *** ستظفرُ منكمْ بالشفاءِ فتُثلجُ

وقال علي بن محمد بن جعفر العلوي يخاطب محمد بن عبد الله بن طاهر قاتل يحيى:

قتلتَ أعزَّ من ركبَ المطايا *** وجئتكَ أستلينكَ في الكلامِ

وعزَّ عليَّ أن ألقاكَ إلّا *** وفيما بيننا حدَّ الحُسامِ

ولكنَّ الجناحَ إذا أهيضتْ *** قوادمُه يدفُّ على الأكامِ

وله أيضاً:

تضوَّعَ مسكاً جانبُ القبرِ إن ثوى *** وما كان لولا شلوه يتضوَّعُ

مصارعُ أقوامٍ كرامٍ أعزةٍ *** أبيحَ ليحيى الخيرِ في القومِ مصرعُ

وقال أيضاً يرثيه:

فإنْ يَكُ يحيى أدركَ الحتفَ يومُه *** فما ماتَ حتى ماتَ وهو كريمُ

وما ماتَ حتى قالَ طلابُ نفسِهِ: *** سقى الله يحيى إنه لصميمُ

فتىً آنستْ بالروعِ والبأسِ نفسُه *** وليسَ كمنْ لاقاهُ وهوَ سنومُ

فتىً غرَّة لليومِ وهو بهيمُ *** ووجهٌ لوجهِ الجمعِ وهوَ عظيمُ

لعمر ابنه الطيار إذ نتجتْ به *** له شِيمٌ لا تجتوى ونسيمُ

لقد بيَّضتْ وجهَ الزمانِ بوجهِه *** وسرَّتْ به الإسلامَ وهو كظيمُ

فما انتجبتْ من مثلهِ هاشميةٌ *** ولا قلبته الكفَّ وهو فطيمُ .

ومن المراثي أيضاً:

بكتِ الخيلُ شجوَها بعد يحيى‏ *** وبكاهُ المُهنّدُ المصقولُ‏

وبكاهُ العراقُ شرقاً وغرباً *** وبكاهُ الكتابُ والتنزيلُ‏

والمُصلّى والبيتُ والركنُ‏ والحجرُ جميعاً له عليهِ عويلُ‏

كيفَ لم تسقط السماءُ علينا *** يومَ قالوا: أبو الحسينِ قتيلُ‏

وبناتُ النبيِّ يندبنَ شجواً *** موجعاتٍ دموعهنَّ همولُ‏

قمن يرثين للرزيّةِ بدراً *** فقده مفظعٌ عزيزٌ جليلٌ‏

قطّعتْ وجهَه سيوفُ الأعادي‏ *** بأبي وجهُه الوسيمُ الجميل‏ُ

قتله مذكرٌ لقتلِ عليٍّ‏ *** وحسينٍ يومَ أوذي الرسولُ‏

صلواتُ الإلهِ وقفاً عليهم‏ *** ما بكى موجعٌ و حنَّ ثكولُ‏

وقال الشاعر أحمد بن طاهر يرثي يحيى من قصيدة طويلة:

سلامٌ على الإسلامِ فهو مودِّعٌ *** إذا ما مضى آلُ النبيِّ فودَّعوا

فقدنا العُلا والمجدَ عندَ افتقادِهم *** وأضحتْ عروشُ المكرماتِ تضعضعُ

أتجمعُ عينٌ بين نومٍ ومضجعٍ *** ولابنِ رسولِ اللهِ في التربِ مضجعُ

فقد أقفرتْ دارُ النبيِّ محمدٍ *** من الدينِ والإسلامِ، فالدارُ بلقعُ

وقتلٌ بآلِ المصطفى في خلالِها ... وتفريقُ شملٍ منهمُ ليسَ يُجمعُ

ألم ترَ آل المصطفى كيفَ تصطفي *** نفوسَهمُ أمُّ المنونِ فتتبعُ

بني طاهرٍ، واللؤمُ منكمْ سجيةٌ *** وللغدرِ منكمْ حاسرٌ ومقنّعُ

قواطعكم في التركِ غيرُ قواطعٍ *** ولكنها في آلِ أحمدَ تُقطعُ

لكمْ كلُّ يومٍ مشربٌ من دمائِهمْ *** وغلّتها من شربِها ليسَ تنقعُ

وما حكمٌ للطالبيينَ شُرَّع *** وفيكمْ رماحُ التركِ بالقتلِ شُرَّعُ

لكمْ مرتعٌ في دارِ آلِ محمدٍ *** وداركمُ للتركِ والجيشِ مرتعُ

أخلتمْ بأنَّ اللهَ يرعى حقوقَكم *** وحقُّ رسولِ اللهِ فيكمْ مُضيَّعُ؟

وأضحوا يرجُّونَ الشفاعةَ عندَه *** وليسَ لمن يرميهِ بالوترِ يشفعُ

فيغلبُ مغلوبٌ، ويقتلُ قاتلٌ *** ويخفضُ مرفوعٌ، ويُدنى المرفَّعُ .

وممن رثاه أيضاً الشاعر المشهور علي بن محمد بن جعفر العلوي المعروف بـ (الحماني) يقول:

يا بقايا السلفِ الصالح والتجرِ الربيحِ

نحن للأيامِ من بينِ قتيلٍ وجريحِ

خابَ وجهُ الأرضِ كم غيَّبَ من وجهٍ صبيحِ

آه من يومِك ما أوداهُ للقلبِ القريحِ

اضف تعليق