q

انصب اهتمام الدول الشيعية التي قامت في التاريخ الإسلامي في مختلف عصوره على خمسة محاور ارتكزت عليها سياساتها:

المحور الأول: والذي كان من أولويات سياسة هذه الدول هو الدفاع عن الإسلام والبلدان الإسلامية حتى التي لم تخضع لدولتهم والتصدّي للهجمات الخارجية على البلاد الإسلامية من قبل الروم وغيرهم، فكان هذا العمل هو الهدف الأول للدولة، ورغم الانشقاقات والنزاعات والصراعات التي كانت تحدث بين أفراد الأسرة الحاكمة في بعض تلك الدول أو مع حكام الدول الإسلامية الأخرى، إلا إن تلك العداءات والصراعات كانت تختفي وتتلاشى عندما تصطدم بتهديد خارجي يمسّ مصير الإسلام، فينصب اهتمام كل القوى الشيعية للتصدّي لذلك العدو الخارجي حتى لو كان هذا التصدّي يضعف من كيان الدولة وقوتها أمام (أخواتها الأعداء) فكانت الدول الشيعية تؤثر التضحية بكل ما تملك في سبيل الدفاع عن الإسلام ووحدة أراضيه وشعبه.

أما المحور الثاني: الذي ارتكزت عليه سياسة الشيعة فهو بناء حضارة إسلامية إنسانية قائمة على العلم والثقافة كدعامة أساسية للدولة، والمطالع لتاريخ الدول الشيعية ينبهر من النهضة العلمية في تلك الدول رغم الأوضاع السياسية الحرجة التي عاشتها بعضها، فقد أولى الأمراء الشيعة اهتماماً منقطع النظير بالعلم والثقافة، وأسَّسوا المكتبات الضخمة، واستقطبوا العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء والمفكرين والفلاسفة والأطباء والجغرافيين والفلكيين والرياضيين وغيرهم بغض النظر عن انتماءاتهم ومذاهبهم الدينية والعرقية، ووفّروا لهم السُبل الكفيلة للإبداع ومهَّدوا لهم كل ما يغنيهم للتفرّغ للعلم.

أما المحور الثالث: الذي اعتمدته الدول الشيعية في سياساتها فهو التسامح الديني والحرية الفكرية، فكل الدول الشيعية التي قامت على مدى التاريخ الإسلامي لم تفرض التشيّع على الناس، بل إنها كانت تكنّ الاحترام لجميع الأديان والمذاهب، فعاش فيها المسلمون من بقية المذاهب حياة دعة ورخاء كما عاش فيها غير المسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، بل إن الكثير من العلماء والمبدعين من غير المسلمين أنتجوا وبرعوا في ظل هذه الدول التي كانت تكرمهم وتحفزهم على الإبداع.

والمحور الرابع: الذي ارتكزت عليه سياسة الدول الشيعية هو العمل على مبدأ حسن الجوار مع البلدان المجاورة واتخاذ الدعوة السلمية منهجاً في الدعوة إلى الإسلام فتتوّج عملهم وجهادهم وكفاحهم الطويل هذا بتعميم الإسلام في الكثير من الدول البعيدة وترسيخ قدمه فيها.

أما المحور الخامس: فهو الاهتمام بالجانب العمراني للدولة فقد اهتم الأمراء الشيعة بهذا الجانب اهتماماً كبيراً وأولوه عناية فائقة، فقاموا ببناء المدن والمعالم والمساجد والمدارس الدينية، وأغلب الآثار الإسلامية التي لا تزال إلى الآن هي من آثار الدول الشيعية كجامع الأزهر ومدينة فاس وغيرهما الكثير، كما اهتموا أيضاً بتنمية القدرات البشرية فبرز أعلام الأمة الإسلامية في دولهم والأمثلة كثيرة لا يسعنا هنا حصرها إضافة إلى اهتمامهم بالجوانب الاقتصادية والزراعية والتجارية والصناعية وغيرها.

والملاحظ لدارس تاريخ الدول الشيعية أنها قد اشتركت كلها في العمل بهذه المحاور، فوضعت هذه الدول الأساس للحضارة الإسلامية، وأرست دعائم الثقافة والفكر في التاريخ الإسلامي، وكانت سور الإسلام المنيع وحصنه الرفيع ومناره السامق ،كما ويلاحظ المتتبع للتاريخ الإسلامي أن الفترات التي حكمت فيها هذه الدول تعدّ من أرقى الفترات التي عاشتها الأمة الإسلامية.

الدولة الموحدية

نجد في الدولة الموحدية التي قامت على أسس شيعية صريحة كل الصراحة في المغرب وامتدت حتى شملت أفريقيا الشمالية كلها والأندلس إلى مناطق واسعة خير مثال على ما ذكرناه من المحاور الخمسة، فقد مثلت هذه الدولة قمة الجهاد والتضحية في سبيل الإسلام والدفاع عن المسلمين وأوقفت سقوط مدن الأندلس بيد الأسبان وانتزعت المدن التي احتلوها.

ولم تنحصر إنجازات هذه الدولة على الدفاع عن الإسلام فقط فمثلما كانت مفخرة في دفاعها عن الإسلام ووحدة المسلمين وحملت راية الإسلام عالياً وهي تصد هجمات الروم والبيزنطيين فقد كانت مفخرة وحاضرة من أعظم حواضر الإسلام العلمية والفكرية ومصدراً اشعاعياً ثقافياً كبيراً من مصادر الثقافة الإسلامية ضمّ الكثير من الإنجازات العظيمة على الأصعدة العلمية والفكرية والادبية.

دعوة الإصلاح

أسَّس هذه الدولة التي حكمت لمدة (136) سنة ــ للفترة بين عامي (1133م/1269م) ــ السيد أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت الملقب بـ (المهدي)، والذي يرجع نسبه إلى الإمام الحسن (عليه السلام)، وتعاقب على حكمها (13) أميراً، وقد نشأت أول أمرها في المغرب ووصلت حدودها من طرابلس شرقاً إلى مشارف المحيط الأطلسي ومن لشبونة إلى ما يعرف الآن بالسنغال، ثم امتدت في الأندلس.

قامت هذه الدعوة على شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية بعد ظهور البدع والضلالات، يقول الكاتب والمؤرخ عبد الله علي علام في كتابه (الدولة الموحدية بالمغرب في عهد عبد المؤمن بن علي):

(وهذه الدعوة (الموحدية) هي دعوة إصلاحية إسلامية تتمثل في التزام ابن تومرت القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لبّى نداء ربه وهي دعوة فكرية ثقافية وإصلاحية إنسانية شاملة).

محمد بن تومرت

ولد محمد بن عبد الله بن تومرت في المغرب سنة (485هـ/1092م) وينتسب إلى قبيلة (هرغة) المتفرعة من قبيلة (مصمودة)، وهذه القبيلة ــ مصمودة ــ تنسب إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) وهو من أعقاب الحسن المثنى بن الإمام الحسن السبط الذين أسّسوا دولة الأدارسة في المغرب بقيادة إدريس بن الحسن المثنى، فانتشروا في تلك البلاد وناسبوا أهلها وخالطوهم فلبسوا جلدتهم وانتسبوا نسبتهم وصاروا في عدادهم فكان هذا الإندماج الكامل عاملاً مهماً وقوياً ساعد على توثيق الصلة بين البربر والأدارسة، حيث ولد عن طريق المصاهرة بينهم أبناء للأدارسة من أمهات بربريات اندمجوا هم وأحفادهم في القبائل البربرية حتى وصف المؤرخون إدريس الأول بأنه قد (تبربر ولده)، فكان لهذا الإندماج أثره الفاعل والواضح والقوي في إقامة عدة دول بعد زوال الأدارسة كدولة بني حمود وبني القاسم والموحدين.

كما ترك هذا الإندماج أثره الفاعل على الأدارسة حتى على أسمائهم ولغتهم فظهرت في فروع سلالاتهم أسماء مثل: كنون وأبي العيس وفك الله وتعود الخير، وحملت بعض سلالاتهم ألقاب بربرية مثل: الكرتي والجوطي، ووصلت إلى البيوت فحملت أسماء مثل: العلميين والمشيشيين والوزانيين وغيرها من الأسماء والألقاب الكثير.

وبلغ هذا الإندماج ذروته فلم يعد هناك فرق بين الإدريسي والبربري لغة وزياً وطباعاً إلى غير ذلك من العادات والتقاليد حتى أصبحت البربرية لغة ثانية، وربما تغلبت على العربية، والأثر الأعظم لهذا الإندماج هو كما يقول الفوطي في كتابه: (الحوادث الجامعة والتجارب النافعة): (وقد خلفت هذه القبائل البربرية دولة الأدارسة بعد ذلك في مراكش وما يليها من بلاد الأندلس وأسست غير دولة من دول البربر كدولة الموحدين وبني مرين والمرابطين ولبعض هذه الدول البربرية مواقف مشهورة في الدفاع عن بيضة الإسلام)

تأصيل التشيّع وتخليده

حاول بعض الكتاب المحدثين التشكيك في تشيّع الموحدين بنسبتهم إلى الشافعية تارة وتارة أخرى إلى غيرها من المذاهب، فتخبّطوا في آرائهم التي لم تستند سوى إلى أهوائهم، لكن الحقيقة التاريخية دحضت كل هذه الآراء الباطلة فتشيّع الموحدين أشهر من نار على علم وهو يظهر في كل آثارهم العلمية والأدبية وخاصة الشعر الموحدي الذي قيل عنه: (إنه لا يختلف عن الشعر الكوفي في تشيّعه)، وهذا الشعر الكثير يحتاج إلى دراسة مطوّلة فقد اهتمّ الخلفاء الموحدون اهتماماً كبيراً بالشعر وخاصة فيما يخص أهل البيت (عليهم السلام).

يقول ابن خلدون في كتابه (العبر): (إن التشيّع الموروث لأولاد إدريس خلد هذه الدولة إلى الأبد في نفوس المغاربة والبربر عامة، فلم تجب دولتهم ولا زال أمرها، بل سرعان ما انتقلت إلى الأندلس لتزيل دولة بني أمية وتخلفها). فقد توارث الإدارسة التشيّع ورفعوا رايته فوق سماء كل الدول التي أسّسوها في المغرب والأندلس.

ابن تومرت الحسني العلوي البربري

كما حاول البعض التشكيك في نسب ابن تومرت العلوي الحسني الصريح لكن هذا التشكيك أيضاً لم يصمد أمام تواتر الروايات في المصادر المعتبرة التي أكدت نسبه الصريح، فقد نقل ابن خلكان في كتابه (وفيات الأعيان) نسب ابن تومرت مبتدئاً به ومنتهياً بالإمام الحسن (عليه السلام)، ثم قال مُعقِّباً: (ووجدتُ في كتاب النسيب الشريف العابد بخط أهل الأدب من عصرنا نسب ابن تومرت المذكور فنقلته كما وجدته).

وهذا النسب لم يكن يُخفى على أحد في حياة ابن تومرت، فقد كان يصدر تواقيعه ورسائله بهذا الإسم: (محمد بن عبد الله العربي القرشي الحسني الفاطمي)، ولو كان هناك شك في نسبه لاعترض عليه أهل المغرب الذين كانوا قريبي عهد بالأدارسة ويعرفون أنسابهم جيداً، وخاصة خصومه ومناوئيه ولعرَّضوا به، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، كما يقول الأستاذ عبد الله علي علام في كتابه (الدعوة الموحدية بالمغرب) وهو يؤكد هذه الحقيقة:

(وقد أثبت المؤرخون إن (ابن تومرت) بربري ينتهي إلى قبيلة مصمودة وليس في ذلك من شك إذ لم نصادف نصاً لابن تومرت أو لأنصاره من المؤرخين من ينفي هذه الحقيقة، بل الأمر على عكس ذلك فقد أثبت التاريخ إن ابن تومرت كان يعتز بقبيلته الصغرى (هرغة) وبقبيلته الكبرى (مصمودة)، وفي الوقت ذاته يسمي ابن تومرت نفسه محمد بن عبد الله القرشي الحسني الفاطمي ويكتب بنفسه نسبه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ولا شك أن ذلك ما يوقع ظاهره في لبس وربما كان هذا اللبس السطحي مما حمل بعض المؤرخين على تكذيب نسبته النبوية ثم طفقوا يخترعون التعليلات لتبرير وجهة نظرهم).

والظاهر أن هذا اللبس الذي قصده الأستاذ علام هو نسبة ابن تومرت إلى قبيلة مصمودة البربرية وعلويته معاً وقد أوضحنا هذا اللبس مما لا يدع مجالاً للشك في نسبته لكليهما في الإندماج الكامل بين البربر والأدارسة والمصاهرة بينهما إلى الحد الذي قيل إن إدريس قد (تبربر ولده).

التواريخ تثبت نسبه

ونجد ما يوضح نسب ابن تومرت أكثر عند ابن خلدون الذي يقول في ترجمته: (محمد بن عبد الله بن تومرت بن عطاء بن رباح بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن الحسن (المثنى) بن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب وسليمان جد ابن تومرت هو أخي إدريس الأكبر الواقع نسب كثير من بنيه في المصامدة وأهل سوس)

ويعزز المؤرخ الكبير ابن نخيل المتوفى سنة (618هـ/1222م) في كتابه (تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية) حيث يقول في خبر سليمان: (إنه ــ أي ــ سليمان لحق بالمغرب إثر أخيه إدريس ونزل تلمسان وافترق ولده في المغرب)

ورغم ان ابن خلدون يختلف مع ابن نخيل في تسلسل الأسماء إلا أنه يتفق معه في نسبة ابن تومرت العلوي الحسني حيث يقول: (وقيل بل هو من قرابة إدريس اللاحقين به إلى المغرب وإن رباحاً الذي في عمود هذا النسب إنما هو ابن يسار بن العباس بن محمد بن الحسن المثنى بن الحسن السبط) ثم يوفّق ابن خلدون بين نسبتي ابن تومرت إلى قبيلة المصامدة البربرية والحسنية بالقول: (وعلى الأمرين فإن نسبه ــ أي ابن تومرت ــ الطالبي وقع في (هرغة) من قبائل المصامدة ووشجت عروقه فيهم والتحم بعصبيتهم فلبس جلدتهم وانتسب بنسبتهم وصار في عدادهم)

فليس هناك أي تناقض بين كون ابن تومرت مصمودي وقرشي في نفس الوقت كما أيد ذلك الكاتب والمؤرخ المصري الكبير عبد الحميد بن عبد العزيز بن منصور العبّادي (1309ـ 1376هـ/1892ـ 1956م) عميد كلية الآداب في جامعة الإسكندرية في كتابه: (المجمل في تاريخ الأندلس) حيث يقول:

(ولكنه ــ أي ابن تومرت ــ كان في الأصل من أحفاد العلويين الأدارسة الذين اندمجوا في البربر وتخلقوا بأخلاقهم وتطبّعوا بطباعهم فهو عربي الأصل بربري الطباع والأخلاق).

وأظن فيما قدمناه من أقوال لا تدع مجالاً للشك في نسب ابن تومرت العلوي الفاطمي الحسني البربري المصمودي.

المفتريات تلاحق ابن تومرت

وكما أثار الكتّاب الشكوك الواهية حول نسب ابن تومرت فقد وضعوا الأكاذيب والمفتريات حول سيرته، فقالوا عنه بما لم يقل وادّعوا عليه بما لم يدَّعِ، وهذه ليست بجديدة عليهم فقد توارثوا عن أسلافهم الأمويين والعباسيين زرع الأكاذيب والمفتريات ولصقها بكل من يقف ضد هاتين السلطتين ويرى أحقية أهل البيت في الخلافة، فقد افتروا على ابن تومرت بأنه ادّعى العصمة وإنه الإمام المعصوم الغائب المهدي (عجل الله فرجه) لمجرد أنه أطلق على نفسه اسم (المهدي) الذي أطلقه تيمُّناً بالإمام المهدي وهذا اللقب وغيره من الألقاب كان أمراً طبيعياً لدى كل الخلفاء والأمراء في الدول التي حكمت ولم يقتصر على ابن تومرت، كما لم يكن هو أول من اتخذ لنفسه مثل هذه الألقاب ولا آخرهم فقد اتخذ كل الخلفاء العباسيين وغيرهم مثل هذه الألقاب، فهل خفي على الكتاب لقب المهدي الذي أطلقه أبو جعفر المنصور الدوانيقي على ابنه محمد ليوهم الناس بأن ابنه هو المهدي وإسباغ شرعية كاذبة لخلافته وخلافة بني العباس؟ أم أن الأمر كما قال الشاعر:

وعينُ الرضا عن كلِّ سوءٍ كليلةٌ *** ولكنَّ عينَ السوءِ تُبدي المَساويا

الأوضاع المزرية وانطلاق الدعوة

عُرف ابن تومرت منذ صغره بالتقوى والورع، كما عُرف بشغفه للدراسة والعلم فسافر إلى قرطبة ومصر والحجاز والعراق وغيرها من البلاد لتحصيل العلم، وكان مواظباً على صلاته وعباداته حتى أطلقت عليه قبيلته كلمة (أسفو) ـ أي المشعل ـ

وكانت الأوضاع آنذاك مزرية في البلاد الإسلامية يسودها الإغراق في الضلال، ومخالفة أوامر الله، والخروج عن أحكام الإسلام وخصوصاً في دول الطوائف المستبدة في الأندلس، فبدأ ابن تومرت دعوته الإصلاحية سنة (1121م) بالعمل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول المؤرخ والباحث المغربي محمد بن تاويت الطنجي (توفي1394هـ/1974م):

(نهضت دولة الموحّدين على حلم عظيم أرادت أن تحققه بكل عزم وفي كل ميدان، ذلكم الحلم هو الثورة على كل شيء الثورة على الأوضاع السياسية والإجتماعية، الثورة على مناحي التفكير في العقائد والأحكام والعلوم عامة، الثورة بالتجديد في كل شيء وبإعادة صرح الدولة الإسلامية الكبرى قوياً شامخاً عظيماً مهيباً).

اتساع نطاق الدولة

أرسى ابن تومرت قواعد دولة إسلامية عادلة تقوم على أحكام الشريعة الإسلامية والإصلاح في المجتمع وبعد وفاته عام (524هـ/1130م) تولى الحكم عبد المؤمن بن علي القيسي فاتسع نطاق الدولة الموحدية على يديه بعد قضائها على المرابطين واستطاع أن يوحِّد أفريقيا الشمالية كلها فقضى على سلطة النرمنديين في تونس وضمها إلى دولته ثم أخضع ملوك الطوائف المستبدين في الأندلس وأقام دولة عظيمة تمتد من أقصى ليبيا إلى المحيط الأطلنطي فالأندلس.

مع الأسبان

بذل الموحدون أقصى جهودهم في إنقاذ الأندلس من أيد الأسبان بعد أن سادت حالة التفكك والتشتت في دول الطوائف التي خضعت لسلطة ألفونسوا السادس فخاضوا مع الأسبان معارك ضارية كان أعظمها معركة (الأرك) عام (591هـ/1191م) والتي هزموا فيها الأسبان شر هزيمة وأعادوا هيبة المسلمين في الأندلس، يقول المؤرخ المصري الكبير محمد عبد الله عنان المختص في مجال الدراسات الأندلسية في كتابه (تاريخ العرب في أسبانيا أو تاريخ الأندلس):

(بلغت الدولة الموحدية الكبرى التي قامت في المغرب والأندلس ذروة عظمتها وقوتها في عهد الخليفة أبي يوسف يعقوب المنصور الذي تولى الخلافة منذ سنة (580هـ/1184م) حتى وفاته سنة (595هـ1199م) وكان ألمع حادث في عهده انتصاره الباهر في موقعة الأرك العظيمة على جيوش قشتالة في سنة (591هـ/1194م).

نصرة البلاد الإسلامية

ولم تقتصر حروب الموحدين مع الإفرنج على الأندلس بل إنها سعت إلى تخليص البلاد الإسلامية من أيديهم، يقول المؤرخ التونسي حسن حسني عبد الوهاب التجيبي في كتابه (خلاصة تاريخ تونس):

(دام استيلاء النرمند على مدائن الساحل التونسي إثني عشر عاماً وفي أثناء تلك المدة التحق الحسن بن علي آخر أمراء الصنهاجيين بالمغرب الأقصى واستغاث بخليفة الموحدين الطائر الصيت عبد المؤمن بن علي ورغبه في إنقاذ أفريقيا من يد الأفرنج النرمنديين واستجاب عبد المؤمن لنداء الحسن الصنهاجي وهيَّأ جيشاً عظيماً عرمرماً وأسطولاً ضخماً قصد بهما أفريقيا، وابتدأ يفتح المدائن الواحدة تلو الأخرى، وفي أقل من عام واحد قضى على أمراء الطوائف المستبدين بالنواحي، كما رهس الأعراب الهلاليين في ضواحي البلاد وأخضد شوكتهم فانظموا طائعين، وانخرط جلهم في سلك جنوده، وتقدم إلى المهدية (عاصمة البلاد آنذاك) فحاصرها براً وبحراً إلى أن افتكّها من يد الأفرنج ودخلها منصوراً سنة (555هـ ـ 1160م) وهكذا تم لعبد المؤمن امتلاك سائر البلاد وأصبح ملكه ينبسط على المغرب كله من أقصى ولاية طرابلس إلى المحيط الأطلنطي ويدخل في ذلك جزيرة الأندلس مما لم يتم لأحد سواه).

مع العباسيين

كان لهذه الإنتصارات التي حققتها الدولة الموحدية أثرها من العظمة في نفوس المسلمين مما أثار أحقاد العباسيين عليها خاصة أن الموحدين كانوا شيعة فسعوا إلى حربها بشتى الوسائل وتحشيد أنصارهم لمقاتلتها والحد من اتساعها يقول ابن تاويت:

(في حروب كانت تورثها الدولة العباسية أيضاً، إذ كانت هذه قد استمالت إليها ابن غانية، فبعث إليها هذا بابنه مع كاتبه عبد البر فرسان مُعلناً الطاعة للخليفة الناصر بن المستضيء وطالباً الخلع والأعلام السوداء فمنحه الخليفة العباسي لقب أمير المسلمين الذي كان العباسيون يمنحونه أسلافه فيما قبل، وكتب ـ أي الخليفة الناصر العباسي ـ إلى صلاح الدين الذي كان آنذاك يدعو لبني العباس، بأن يناصره على خصومه الموحدين)

ويواصل ابن تاويت حديثه عن الخليفة العباسي في العمل والتخطيط للقضاء على الموحدين فيما كان الموحدون يقاتلون الإفرنج ويغيثون البلاد الإسلامية ونصرتها على الأسبان وتخليص المدن التي وقعت تحت سطوتهم فيقول:

(لقد امتثل صلاح الدين فجرّد جيشاً تحت قيادة قراقوش وبوزبا من أتباع تقي الدين ابن أخيه فاتجه هؤلاء صوب أفريقيا لخوض المعركة إلى جانب ابن غانية ومن معه من الأعراب فكان ذلك وانتهى بانتصار الموحدين واستسلام جيش صلاح الدين وابن أخيه ثم رأى الموحدون بصائب نظرهم أن يستغلوا هؤلاء الغز الذين حاربهم بهم صلاح الدين فانخرطوا في جيشهم مع قائدهم قراقوش، كما كان أولئك الأعراب قد انخرطوا في جيشهم النظامي أيضا).

وهكذا استطاع الموحدون من تحويل المعركة بين المسلمين مع بعضهم إلى صالح المسلمين وتوحيد القوى ضد العدو الإفرنجي الذي يهددهم.

أسطول الموحدين

استطاع الموحدون إنشاء أسطول عظيم كان له دور كبير في تطهير سواحل البحر المتوسط من أية قوات بحرية معادية وانتزع من النورمانديين مدينة المهدية وقد أولى الموحدون هذا الأسطول عناية خاصة لدوره الكبير يقول ابن خلدون: (إن أساطيل المسلمين وصلت في عهد الموحدين إلى ما لم تصل إليه من قبل ولا من بعد، وذلك من حيث جودة الصناعة واتقان الحيل الهندسية والعلم بالشؤون البحرية)

ويقول ابن تاويت: (وباستقصاء الأحداث العظيمة التي جرت أبان ولاية الموحدين لا نجد ما يشير إلى أي انكسار مني به أسطولهم).

ومن أبرز المعارك التي خاضها هذا الأسطول المعركة التاريخية الكبرى التي وقعت بسواحل طرطوشة بين الكاطالونيين وحلفائهم الفرنسيين والإيطاليين وقراصنة الجزر الشرقية الخاضعة للصقالبة وبين اسطول الموحدين وكان عدد أسطول هذه الجيوش المحتشدة والمتحالفة (200) قطعة مقابل (80) قطعة هي عدد أسطول الموحدين ولكن الموحدين استطاعوا أن ينتصروا على هذا الأسطول المتحالف انتصاراً عظيماً، فالتفوق العددي للعدو كان يقابله النوعية والتدريب والتصميم والصلابة للموحدين.

ولا تزال السجلات البحرية التاريخية التي تحفل بها المتاحف والخزائن الخاصة بألمانيا وهولندا وإنكلترا وأسبانيا تحتفظ بالكثير عن الأسطول الموحدي في القرن الثاني عشر الميلادي والذي كان يشكل مصدر رعب لهم كلما حاولوا أن يفكروا في خوض حرب ضد المسلمين.

النهاية

تماسكت جبهة الأندلس بيد الموحدين وعاشت أقوى فتراتها في عهد يوسف المنصور وبقيت الدرع الواقي للبلاد الإسلامية حتى انتكست وأصابها التداعي في عهد رابع خلفائها محمد الناصر بعد معركة (العقاب) عام (1212م) التي يطلق عليها الأسبان اسم: (لاس نافاس دي تولوسا) والتي كانت قاصمة الظهر للموحدين فقد اجتمعت قوات الملك ألفونسو الثامن ملك قشتالة وسانتشو السابع ملك نافارة وألفونسو الثاني ملك البرتغال وبيدرو الثاني ملك أراغون ضد الموحدين فاستطاعوا هزيمتهم وقتل ابن الخليفة الناصر ورفض الناصر مغادرة أرض المعركة منتظراً الموت أو الأسر إلا أن جموع المسلمين المنسحبة أجبرته على المغادرة معها فذهب إلى إشبيلية ومنها إلى مراكش حيث توفي عام (1213م).

بعد هذه المعركة بدأت الإنهيار والتداعي يصيب الدولة الموحدية خاصة بعد سقوط الأندلس في أيدي الإفرنج عام (1228م)، و(تونس) في أيدي الحفصيين، وانتزع الزيانيون منهم المغرب والجزائر عام (1236م) فيما كان المرينيون يكثفون من حملاتهم على الدولة الموحدية حتى استطاعوا القضاء عليها نهائياً عام (1269م).

وهكذا خفت نجم هذه الدولة التي وقفت نداً عصياً على الإفرنج واستطاعت أن توحِّد أفريقيا الشمالية كلها (ليبيا وتونس والجزائر والمغرب) إضافة إلى الأندلس وأقامت حضارة علمية كبيرة بلغت الذروة في التقدم والإزدهار وهذا ما سنتحدث عنه في موضوع آخر

الخلفاء الموحدون

تعاقب على حكم الدولة الموحدية (13) خليفة بين عامي (1133ــ1269م) هم:

1 ـ عبد المؤمن بن علي القيسي

2 ـ يوسف بن عبد المؤمن

3 ـ يعقوب بن يوسف المنصور

4 ـ محمد الناصر بن يعقوب بن يوسف

5 ـ يوسف المستنصر

6 ـ عبد الواحد المخلوع

7 ـ عبد الله العادل

8 ـ يحيى المعتصم

9 ـ إدريس المأمون

10 ـ عبد الواحد الرشيد

11 ـ أبو الحسن السعيد

12 ـ عمر المرتضى

13 ـ إدريس الواثق

اضف تعليق