q

"...واللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ".

ألا يستخدم الامام علي بن أبي طالب، عليه السلام، قدراته المتوفرة كحاكم للوصول الى ما يريد، بدءاً من انتزاع جُلب شعيرة من فم نملة صغيرة، مروراً بأبسط حقوق الانسان وحتى أكبرها، يعني أنه يكشف عن ملامح دولته مع تأكيد التمايز عن الدول او التجارب الأخرى في عهده وحتى يومنا هذا والى أجل غير معلوم.

هذه التجربة كانت قصيرة في عمرها، ولكن؛ عميقة في مصداقيتها، فقد توالت عليها التجارب المريرة التي أقل ما يُقال عنها أنها أعادت الامة الى عهد الجاهلية الاولى التي حاربها رسول الله وضحى من أجل استبدالها بالحضارة الاسلامية، بيد أن الباحث في الفكر السياسي واتجاهاته، ما ان يصطدم بالنماذج السيئة للحكم في الاسلام في صوره النمطية التي خلقها الأمويون والعباسيون والعثمانيون، حتى يجد كوّة في نهاية الظلام تهديه الى تجربة أمير المؤمنين، عليه السلام، وما قدمه للإنسانية من طراز مميز واستثنائي للحكم، فأين العالم من هذه التجربة؟ ولماذا نلاحظ محاولات التغييب لصالح تجارب سيئة رغم الحاجة اليها؟.

الغرب يفشل في تصدير تجربته

من المعروف إن القوى الاستعمارية استعانت بالفكر الغربي لتصدير تجارب سياسية الى البلاد الاسلامية لملء الفراغ السياسي الحاصل بعد انتهاء حقبة الاستعمار في مطلع القرن الماضي، والاستعداد لحقبة جديدة من التعامل مع الشعوب التي بعد لم تلمس العديد منها شكل الدولة في حياتها، فبعد منح "حزمة من الاستقلالات" لدول في الشرق الاوسط وشمال افريقيا، ضخت فيها تجارب مثل العلمانية او الليبرالية او القومية لتكون رموزاً لدول حديثة النشوء تسهم في استمرار العلاقة معها بما يضمن مصالحها الاقتصادية بالدرجة الاولى، مع الاخذ بعين الاعتبار البعد الحضاري والثقافي في هذه العلاقة، وجعلها المعيار لتقويم هذه العلاقة دائماً.

بيد ان مفكري الغرب قبل ساستهم اكتشفوا منذ فترة ليست بالقصيرة، أن تلك البضاعة الغربية ليس فقط لم تنجح في البلاد الاسلامية، وإنما وجدوا أن الاسلام الذي تصوروا انقراضه بعد انقراض مفهوم الدولة الاسلامية العثمانية، آخذٌ بالانتشار في اوربا واميركا الشمالية، ليس فقط على شكل مساجد وطقوس دينية، وإنما على شكل مؤسسات ثقافية ذات تأثير في المجتمع الغربي، فكان انتشار ظاهرة اعتناق الاسلام مذهلاً ومريعاً بالنسبة لهم.

وبلغ الأمر حداً في الاعتراف بالتقهقر في الفكر السياسي الغربي أن يتسائل شخص مثل فرانسيس فوكوياما في كتابه "بناء الدولة" ما "اذا كانت مؤسسات وقيم الغرب الليبرالي كونية وعالمية حقاً أم انها، كما يجادل صموئيل هنتنغتون، مجرد امتداد للعادات الثقافية السائدة في جزء معين من عالم اوربا الشمالية".

طبعاً هو لا يبحث في الاسباب الداخلية لهذا الفشل الغربي في البلاد الاسلامية، ويعد أن الاشكالية في القدرة المحدودة على الاستيعاب والفهم لتلكم القيم، وقد كتب آخرون في الفترة التي بدأت الديكتاتوريات تتهاوى وتظهر على السطح ظاهرة ما يسمى بـ "الارهاب"، ان الشعوب الاسلامية غير قادرة على إدارة نفسها بنفسها، بمعنى أن الصعب جداً تصور دمج تجربة الدولة مع وجود الهوية الاسلامية لهذه الشعوب.

تهافت الطرح في الداخل والخارج

إن وجود ظاهرة التطرف الديني وما أولدته من ايديولوجية تكفيرية ودموية تحت شعار الاسلام، حقق فائدة مشتركة لطرفين في الساحة:

الاول: القوى الغربية التي أعياها الاسلام – المنهج، وليس التاريخ، وفشلوا في تغييب هذا المنهج ببدائل سياسية وفكرية، حتى بلغ الاعياء حدّاً ان يجدوا انتشار المسلمين في بلاد الغرب وهو مكتوفي الأيدي لا يقدرون على منعه حتى علا صوت الفاتيكان ومؤسسات ثقافية واكاديمية من مغبة تصاعد نسبة عدد المسلمين في التعداد السكاني لدول مثل بريطانيا وفرنسا والمانيا.

الثاني: بعض التيارات الثقافية والفكرية في داخل البلاد الاسلامية التي لم يرق لها يوماً الحديث عن تجربة للحكم مثل تجربة الامام علي، متوسلة بالتاريخ وصفحاته السوداء في مجال الحكم، على أن "الخلافة الاسلامية" في تطبيقاتها الكارثية خلال العهود الماضية هي السبب وراء الويلات التي تجرعها المسلمون، على أنها كانت نسخة اخرى من عهود الكنيسة المظلمة في اوربا وما ابتدعته من حالة تأليه وتقديس لمصادرة عقول الناس وحقوقهم وحتى التلاعب بمصائرهم وحياتهم. وما ظهور التنظيمات الدينية المتطرفة إلا إفراز لتلك العقلية السلطوية المتسترة بالدين.

بيد أن التساؤل الذي يقفز امام طرح كهذا؛ ان القراءة التاريخية لتجربة الحكم في الاسلام يجب ان يتسم بالعلمية، فاذا كان التاريخ يتضمن الانحرافات عن المنهج الذي اختطه النبي الأكرم قبل رحيله للأمة، فانه يتضمن ايضاً اشراقات من نفس هذا المنهج الوضاء متمثلاً بتجربة الامام علي بن أبي طالب، عليه السلام، وإذن؛ فاذا كان بعض الكتاب والباحثين العرب يختزلون تجربة الحكم في الاسلام بما ظهر مؤخراً من إفراز سيئ لانحراف الماضين، تحت مسمّى "الدولة الاسلامية في العراق والشام"، فانهم يكونوا مجانبين للحقيقة، بل ومدانين من قبل الامة ليس فقط على تغييب الحقيقة، وإنما المشاركة بأقلامهم في هذه العملية، كما يفعل التكفيريون والارهابيون بنسف التجربة ايضاً بمختلف فنون القتل والإبادة والترويع.

وفي الختام؛ ما يصدر من "داعش" تحديداً، على أنها تحمل اسم "الدولة" من مشاهد دموية مريعة وأعمال رهيبة، ينصرف على لسان وسائل الاعلام الغربية وعلى لسان وأقلام بعض النخب الثقافية العربية، على أنه الامتداد الطبيعي للحكم في الاسلام، وبالنتيجة؛ لا يجب التحدث بعد اليوم بشيء يسمى "الحكم في الاسلام" او حتى التنظير لدولة اسلامية مهما تعاضدت الأدلة والبراهين والمصاديق على جدارتها في التطبيق على ارض الواقع في هذا الزمان وكل زمان.

اضف تعليق