q

عندما نقرأ حديث رسول الله، صلى الله عليه وآله: بأن "العلم نور والجهل ظلام"، نفهم طبيعة العلم برحابته وسعته بلا حدود، وهل لنا أن نتصور حدوداً للنور؟! بينما نفهم نقيضه بشدّة الضيق الخانق لما يخلقه الظلام من مخاوف من أي حركة ربما تؤدي بصاحبها الى ما لا يريد.

هكذا يمكننا قراءة ذهنية الجناة بعد خروجهم من الروضة العسكرية وقد أكملوا عمليات التشريك وتوزيع المتفجرات في الأركان و الزوايا في أيام كهذه من شهر محرم الحرام قبل عشر سنوات، ثم نفذوا عملية التفجير الغادرة للقبة الشريفة التي تحوي ضريحي الإمامين؛ علي الهادي والحسن العسكري، الى جانب السيدة حكيمة والسيد نرجس، والدة الامام الحجة المنتظر، عليهم السلام. فما رأوه من آثار الهدم والنسف للقبة الشريفة أدخل في نفوسهم الرضى بنجاح مهمتهم بهدم مبنى مشيّد يعدونه مناقضاً لأفكارهم، لانه سيقلل من وجود أثر لهذين الإمامين العظيمين في مدينة سامراء، ربما استجابة لطلب بعض الافراد او الجهات بأن لا يكون المرقد الشريف بين ظهرانيهم...!.

بماذا يضاهون العلم ؟!

"ما أشبه اليوم بالبارحة"، وهذه كناية –طبعاً- فمن هذه الايام نعود بالذاكرة الى قرون خلت، والى العهد العباسي وتحديداً العهد الذي عاشه الإمامان الهادي والعسكري مع الحكام العباسيين، بعد استقدامها من المدينة المنورة الى سامراء للسبب المعروف، وقد سبقهم الى ذلك لأول مرة؛ هارون "الرشيد" الذي استقدم الامام الكاظم، عليه السلام، من مدينة جدّه المصطفى، لئلا تكون لهم قاعدة تتعاظم فيها القوة السياسية والاجتماعية.

فالإمام علي بن محمد النقي الهادي، استقدمه المتوكل العباسي الى سامراء، وحاول جاهداً التضييق عليه وإبعاده عن قاعدته الجماهيرية، فأسكنه بدايةً في محلّة تدعى بـ "خان الصعاليك"! وهي من المناطق الوضيعة اجتماعياً، في محاولة للانتقاص من منزلته، فبالغ في التنكيل والعسف ضد الإمام واتباعه، من مداهمات ليلية مع تفتيش الدار بحثاً عما يدعيه الوشاة بوجود سلاح أو أموال مهيأة للاستيلاء على الحكم، ظناً منه أنه بذلك يضيّع على الأمة ذلك الينبوع المتفجر علماً في المدينة المنورة والذي قصده الناس من الشرق والغرب.

فما الذي قدمه المتوكل العباسي للأمة؟

أولاً: لنبدأ بالأثر التاريخي الماثل حتى اليوم في مدينة سامراء، ألا وهو المأذنة الملوية التي كانت جزءاً من مسجد بناه المتوكل سنة 243هـ ، ولم يبق من المسجد اليوم إلا الأطلال، فيما بقيت المأذنة محافظة على تماسكها.

أما اهتمامه بالعلم والمعرفة والأدب، فان التاريخ خير ما نحتكم اليه لمزيد من الموضوعية في تناول هذه الشخصية التي حاولت عبثاً التطاول على منارة العلم الإلهي، وبعيداً عن تفاصيل اللهو والمجون والفجور، جاء في "تاريخ الخلفاء" لجلال الدين السيوطي، بأن شخصاً يدعى "ذا النون" كان في بلاد مصر وقد أتهم بالزندقة لما صرح به من أمور كلامية (فلسفية)، فشكوه الى المتوكل، فأمر بإحضاره الى سامراء، وأكرمه وأغدق عليه وعدّه من الصالحين!

كان يغدق الأموال على العلماء والشعراء والمحدّثين، لكن! من أي فئة؟! وهل كل أولئك في طريق واحد؟ إنما كان يقرّب الممالئين له والمتزلفين ومن يضع له الاحاديث التي تخدم وجوده في كرسي الحكم.

وقد وقف التاريخ مذهولاً أمام إغداق المتوكل غير المسبوق على الشعراء الطبالين والزمارين، بما أثار غرابة الشعراء أنفسهم! حتى قيل: أنه ما أعطى خليفة شاعراً ما أعطى المتوكل، وفيه يقول أحدهم (مروان بن أبي الجنوب):

فأمسك ندى كفيك عنّي ولا تزد فقد خفت أن أطغي وأن أتجبرا

فأجابه المتوكل: لا أمسك حتى يغرقك جودي، وكان قد وهبه على قصيدة له بمائة وعشرين ألف دينار.

هذا الاسراف المهول على المتزلفين والوصوليين، كان يشمل بناء القصور، ففي الوقت الذي كان المسلمون في كل مكان يعانون الفقر والحرمان حد المجاعة، كانت الملايين من الدنانير الذهبية تنفق على بناء القصور والحدائق الحاصة له في سامراء، وجاء في المصادر أنه بنى في منطقة الماحوزة بالقرب من سامراء، مدينة سماها "الجعفرية" وحفر فيها نهراً، وبنى فيها قصراً لم يسمع بمثله، كما كان يجبر الناس على بيع بيوتهم ليستولي على القرى التي يرى فيها بقعة ملائمة لإحدى قصوره، وقد ذكرت في التاريخ: "الشاه" و"العروس" و"الشبداز" و"البرج"، وغيرها، وجاء أنه أنفق على تشييد "البرج" وحده مليون وسبعمائة ألف دينار ذهب.

أين مصير كل تلك المباني والقصور؟ لم يبق منها سوى المأذنة الملوية لتكون شاهداً على ما جرى من الخطب الفضيع في أموال المسلمين وثروات الامة.

ينبوع العلم في دهاليز سامراء

قبل أن يستدعيه المتوكل الى مقر قيادته العسكرية والسياسية، كان الامام الهادي وايضاً ابنه الحسن العسكري، عليهما السلام، قد انطلق – كما هو شأن الأئمة المصعومين من قبلهم- في تشكيل حلقات الدرس ونشر العلم، فتخرج العشرات من العباقرة في شتى العلوم بين يديه، عليه السلام، وقد ترجم الشيخ الطوسي – طاب ثراه- في كتابه "رجال الطوسي" 185 تلميذاً وراوياً ممن درسوا على يد الامام و رووا عنه، فيما توسع السيد كاظم القزويني – طاب ثراه- في "الامام الهادي من المهد الى اللحد" ليترجم لـ 346 راوياً ومحدثاً.

وهذا إن دلّ على شيء، فانما يدل على سعة نشاط الامام الهادي، عليه السلام، لنشر العلوم من ينبوعها الاصيل الذي تشوبه شائبة، وإعداد هذه الصفوة من العلماء الذين تحولوا فيما بعد الى علماء وفقهاء تصدّوا لمهام علمية مثل التفسير والتأليف، وايضاً مهام قيادية تمثلت في السفراء الاربعة الذين ظهروا فيما بعد في عهد الامام الحسن العسكري، عليه السلام.

والدور الأهم في هذه المسيرة العلمية؛ المزيد من بلورة العلوم والمعارف الإلهية التي جاء بها أهل البيت، عليهم السلام، والمتصلة بالسماء عن طريق الوحي، وهي التي لم تصمد أمامها مختلف الاتجاهات الفكرية والعلمية التي اتخذت العقل مرتكزها الوحيد، ففي في "سيرة الامام الهادي" للدكتور عبد الله اليوسف، جاء بأن "الامام الهادي، عليه السلام، عمل على بيان المرتكزات الفكرية والعلمية للإسلام، وإيضاح دعائم ومرتكزات التيارات والفرق المنحرفة، حتى لا يتأثر بها المسلمون حيث شاع في عصره الكثير من تلك التيارات والفرق والمدارس المختلفة، والتي كان بعضها يروج لأفكار منحرفة وضالة".

هذه الفرق والافكار الضالة لم تظهر في الساحة الثقافية لولا الرعاية الخاصة من لدن حكام بني العباس الذين وجدوا فيها ما يطمنهم على كراسي الحكم ولا يقدح في مشروعيتهم، وكان أول من رفع لواء الدفاع عن هذه الافكار؛ المأمون عندما تبنى "الاعتزال" كمذهب رسمي لدولته، وهو المذهب الذي يجعل الانسان "منزلة بين منزلتين"، ومما أذاعوه: "مرتكب الكبائر لا هو مؤمن ولا هو فاسق"، كما تبنوا فكرة "خلق القرآن"، وجاء في كتاب الشيخ اليوسف ايضاً: "...في عهد المعتصم ومن قبله المأمون ثم الواثق، كانوا يؤيدون حركة الاعتزال، وعندما جاء المتوكل صار مع الأشاعرة وأخذ يحاسب ويعاقب كل من يخالف رأيه فيهم..."!! مما يدل على مدى التخبط الفكري والعقائدي للحكام العباسيين وتلاعبهم بمصير ابناء الامة، بسبب خوائهم من العلم والمعرفة من مصادرها الحقيقية.

أما الامام الهادي ومن بعده ولده الحسن العسكري، عليهما السلام، فقد وقفا كالطود الشامخ أمام أي نوع من انواع الانحراف في الفكر والعقيدة ليبنوا للأمة الطريق الصحيح والعقيدة الحقّة، فكانت تنتشر بين الاوساط إجابات وإفحامات الامام الهادي، لرموز القدرية والجبرية وأهل الكلام (الفلسفة) والغلو في أمر التوحيد ممن ادعو الحلول ورؤية الله – جلّ جلاله- ، وبذلك أهدوا الامة، منذ ذلك الحين، قواعد العلوم الصحيحة التي تأخذ بيد الانسان الى مراقي التقدم، وهذه العلوم لن تأخذ مكانتها الحقيقية في اوساطنا اليوم إلا بعد أن يكون للامام الهادي وولده العسكري، عليهما السلام، المكانة التي يستحقونها في قلوب المسلمين كافة، شيعة وسنّة، لاسيما في العراق وفي مدينة سامراء على وجه التحديد التي يضم ترابها جثمان هذين الإمامين العظيمين.

اضف تعليق