q
{ }

التجارب الفاشلة في بلادنا بسبب أن القيادة تتجسد في رجل؛ أياً كان، بغض النظر عن الأسماء، فهذا الرجل (القائد) لا يحق له القيادة وصلاحية القيادة من قبل الله –تعالى-، فلماذا يجب أن يحكم شخصٌ ما بلداً وشعباً لمجرد أنه قام بثورة يوماً ما؟، انه المنطق السقيم والفاشل.

وإن كانت ثورته عن حق، فله أجر مجاهد واحد في الأمة الاسلامية، لا أكثر، فهل كل مجاهد في سبيل الله، له حق الحكم والسيادة كيفما يريد؟ كلا، ان الشخص غير المخوّل من قبل الله –تعالى-للقيادة، اذا تصدّى للقيادة فان مجرد تصدّيه يمثل انحرافاً عن الاسلام، وإقرار قيادته، انحراف آخر.

فقد أدت الانحرافات من بعد وفاة الرسول الأكرم، وما تزال والى أمد غير معلوم، تؤدي الى الهزائم المتلاحقة على الكيان الاسلامي، والسبب في ذلك؛ انحراف القيادة، وبانحراف القيادة لا تبقى ركيزة يمكن الاعتماد عليها.

ونحن بدورنا، اذا اردنا النجاح في مجالاتنا الفردية او الاجتماعية او الوطنية، علنيا الالتزام بأحد عناصر النجاح وهي؛ القيادة المرجعية، و رب سائل عن كيفية تحقيق القيادة المرجعية في المكتب، أو في التجارة، أو في سائر الاعمال التي يقوم بها الافراد والجماعات؟ نقول: ألا تتذكرون نظام التقليد؟

كما أن نظام التقليد يمد جذوره الى المحراب، فانه يمد جذوره الى المتجر والى المعمل، والى والحقل، والى كل مجالات الحياة على حدٍ سواء، كما تكون في المجالات الوطنية والثورية وغيرها.

الثورية والسلّم نحو القيادة والحكم

الحديث عن الثورة الجماهيرية يستدعي انقلاب النظام السياسي الحاكم والتخلص من الديكتاتورية او الاحتلال العسكري وما تطمح اليه جماهير الشعب من التحول الى الوضع الأفضل في المجالات كافة، لذا كلما كان الدور كبيراً في تحقيق هذا الطموح، كلما كان الصعود أسرع في سلّم القيادة الجديدة، والأمر يتعلق بأصغر عضو في الحركة الثورية، وحتى الشخصيات القيادية والقائد نفسه.

هذه هي السمة البارزة لمعظم حركات التحرير والثورة في العالم، ولاسيما في بلادنا الاسلامية، حيث اختلطت اهداف وغايات وطنية مع أخرى دينية وحتى حضارية لتشكل الدوافع للانطلاق نحو التغيير وصناعة واقع سياسي بديل.

ولكن؛ هل كان البديل –دائماً- انعكاساً لطموحات الجماهير؟ وهل مكنتها من حقوقها مثل الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الانسانية التي فقدتها في عهود الظلم والطغيان؟

الاجابة عن هذا السؤال، يساعد على الاجابة عن السؤال الذي طرحه المفكر الاسلامي الشهيد السيد حسن الشيرازي في المقطع الصوتي الذي صدرنا به هذه القراءة، فالجماهير الثائرة بقيادة شخص ما او جماعة ما، تتصور أن مجرد قيادة هذه الثورة وتحقيق التغيير الكبير، يعطي الحق والمشروعية لهم بأن يتسلقوا سلّم القيادة ويتسيدوا على العباد والبلاد، لاسيما اذا كانت هذه الجماهير تعيش تحت وطأة العبودية والحرمان والأمية، فهي لا ترنو سوى للقفز نحو كوة النور للخروج من واقعها المزري.

ولا أجدني بحاجة الى ذكر أمثلة عديدة من تاريخنا "الثوري" المعاصر، لأن السيد الشهيد كان يتحدث مع غير قليل من اللوعة والألم عن تجربة قريبة عليه في بلده (العراق)، لم تتوفر فيها الشروط الصحيحة للقيادة فانهارت بسرعة غير متوقعة، رغم ما حصل من منجزات تمسّ واقع المواطن من فرص عمل وسكن وتطوير القطاع الانتاجي والتعليمي، بما لم يحصل في العهد الملكي، وهذه التجربة التي يعدها البعض بانها "ثورة"، بينما حقيقتها؛ انقلاب عسكري في وضح النهار، ولا يشكّ فيه أحد، انهارت أمام انقلاب عسكري مشابه وعلى يد أقرب المقربين الى الزعيم وقائد هذه الثورة، ولم يتمكن أحد من فعل شيء.

بيد أن عمق الأسف يكمن في ابتعادنا عن تجارب ضاربة في تاريخنا وحضارتنا، تؤكد معيارية القيم والمبادئ في انتخاب القائد ومن تكون له الصلاحية، وهو ما يشير اليه السيد الشهيد ايضاً، بأن حقانية العملية التغييرية لن تكون بأي حال من الاحوال، دليل مشروعية الصعود الى قمة الحكم، وقد أشار الى قيمة عظيمة تفوق كل الشعارات التحررية والثورية المنضودة حديثاً، وهي قيمة الجهاد في سبيل الله، فالمجاهد هنا – يقول الشهيد- يأخذ أجره كمجاهد واحد، ولا يحق له تنصيب نفسه على سائر المجاهدين، إلا بتوفر الشروط الخاصة. وإن كان غير ذلك، لكان رسول الله، صلى الله عليه وآله، اختار شخصاً آخر لقيادة الجيش الاسلامي المتجه صوب الروم، غير ذلك الشاب النحيف الجسم والمغمور، ألا وهو أسامة بن زيد، ولكان الاعتراض عليه وجيهاً من قبل المقربين ممن يدّعون السبق في الجهاد والصحبة وغير ذلك.

لماذا القيادة المرجعية؟

لابد من الوقوف على علّة تقييد شرعية القيادة السياسية بالمرجعية الدينية، فالقضية ليست على شاكلة بعض الأحكام العبادية التي لا نعرف الحكمة منها، مثل صلاة الصبح ركعتين والظهر أربع ركعات والصيام ثلاثين يوماً فقط، وأمثالها، إنما تتعلق بواقع الامة وبواقع الانسان الذي يعيش في الوسط الاجتماعي، ولها مدخلية مباشرة بصناعة الواقع والمصير، وهذا ما دفع بالسيد الشهيد لأن يهتف من الاعماق محذراً من تكرار الكوارث والرزايا على الامة بسبب الانفصام بين المرجعية الدينية والقيادة السياسية، بل هو ما نعيشه اليوم، رغم مرور أكثر من نصف قرن على ذلك التحذير.

فاضافة الى المؤهلات والمواصفات التي حددها العلماء والمفكرون فيما يتعلق بالقائد السياسي، أبرزها؛ الإيمان بالإسلام عقيدة ونظاماً وخلقاً، والفقاهة والعدالة، بما يحقق مفهومي العلم والعمل في الحياة، والعدالة، وغيرها، فان ثمة خصائص تميّز هذا النوع من القيادة عن سائر النماذج المعمول بها في العالم، منها؛ "الاستمرارية في مؤهلات القائد" والحرص على توفرها طالما كان ذلك القائد في قمة الهرم القيادي، علماً أن الانظمة السياسية في العالم تتباهى باعتمادها هذا المبدأ، بيد أن "القيادة الاسلامية لا تحدد الكفاءة (العلمية) والأمانة (العملية) بابتداء تسنّم القائد لمركزه، تاركة إياه بعد ذلك في حرم منيع، وحصانة تمنع عنه أي نقد واعتراض".

وفي كتابه "القيادة الاسلامية" يذكر أنه في حال فقدان الكفاءة والعدالة "فقد معه كل صلاحياته فوراً"، وفي رؤية فقهية، يضيف الكاتب بان "الفقه الاسلامي يذهب خطوة أبعد وأعمق من هذا، حينما يحكم بافتقاد القائد الأعلى صلاحيته بمجرد إصابته بطائف خاطف من الجنون او الإغماء، كل ذلك لكي تبقى القيادة في أمان من التأثر بالقائد، ولا يبقى القائد في أمان من القيادة، فيتنزل شيئاً فشيئاً الى بهيمة طائشة الهوى، واسعة القوى، كبيرة الامكانات".

ولا أجدني بحاجة الى ذكر نماذج من الديمقراطيات الحديثة التي قدمت للشعوب من انغمس في ملذاته الجنسية ومن امتدت يداه الى أموال الشعب، ومن تسبب في إزهاق أرواح الآلاف وإشعال الفتن والاضطرابات وغيرها من الكوارث، مع كل هذه الفضائح المدوية وهو في مكتبه كرئيس جمهورية او رئيس وزراء او أي مسمّى قيادي آخر، وإن تحدث الاعلام او الاحزاب المعارضة او مؤسسات المجتمع المدني، يأتي الجواب سريعاً: تنتهي فترة الاربع سنوات ولكم ان تستبدلوه بآخر في الانتخابات القادمة، مع مطلق الحرية للاختيار بين الوجوه الموجودة!

إنما الحاجة تبدو ملحّة اليوم – وقبل غداً- الى تلمّس العلاج الناجع لجذور المشكلة لتحقيق الطموح العتيد الذي ضحى من اجله العلماء والمفكرون والمجاهدون طيلة عقود من الزمن، فالقائد الطامح نحو قمة السلطة لن يصل إلا عبر حزب سياسي يتميز بالتنظيم والامتداد الجماهيري، وهذا الحزب، ما زال يمثل صورة مستنسخة من الأصل في الغرب، من الصعب عليه الانسجام مع هوية الجماهير المسلمة وثقافتها، فتأتي برامجه وقوانينه واجراءاته – في كثير من الاحيان- متضاربة مع هذه الهوية والثقافة، الى درجة ان يكون هذا الحزب ظهيراً للقائد الفاقد الصلاحية، فيكون مصيره الفشل، ويكون انهياره مصحوباً بأنهر من الدماء .

وهذا ما حصل في ايران عام 1952 في الحراك الجماهيري الذي قاده علماء الدين والرموز الوطنية وفي طليعتها محمد مصدق، الذي كان يتزعم "الجبهة الوطنية" ومن خلالها تمكن من اعتلاء السلطة بتفويض من الجماهير ومباركة من العلماء، وشخص السيد ابو القاسم الكاشاني، وتمكن من الإطاحة بحكومة الشاه و طرده خارج البلاد، بيد أن المشكلة بدأت عندما ابتعد الاخير عن العلماء بتصور أنه يكتفي بدعم الجماهير وحسب، ولا حاجة للمشروعية الدينية، وجاء في مضمون الرسالة التي بعثها الى السيد الكاشاني في حينه: "إني اعتمد رأي الشعب وحسب"، وكانت النتيجة؛ سقوط تجربته الثورية والوطنية بعد فترة قصيرة بانقلاب عسكري دبرته المخابرات الاميركية، وكانت نتيجته المزيد من اجراءات القمع والاضطهاد وكبت الحريات بحق المعارضين.

وكان هذا هو الهاجس الاكبر لدى علماء الدين من انزلاق أي تجربة حزبية اسلامية نحو الديكتاتورية والطغيان، ولعل في طليعة من حمل هذا الهمّ وفكّر فيه ودبّر طريق الخلاص منه، نفس الشهيد السيد حسن الشيرازي وفي أوج النضال والجهاد لتحيكم القيم والمبادئ في النظام السياسي في العراق، فانطلق محذراً في كتابه "كلمة الاسلام" من التأثيرات الغربية على الحالة الحزبية لدى بعض الإسلاميين ومن مغبة خلق ديكتاتورية فردية تختفي تحت عباءة الدين والشعارات الاسلامية، موضحاً بان "الحركة الاسلامية الصحيحة هي التي تكون في بواعثها واساليبها واهدافها اسلامية في الصميم، بحيث اذا انحرفت قيد شعرة يبدو الانحراف فيها شذوذاً، لا أن تكون الحركة في بواعثها واساليبها واهدافها غير اسلامية، حتى يلاحظ الالتقاء فيها مع الاسلام شذوذاً"! وهو في ذلك يدعو ويؤكد على ان تكون الاحزاب الاسلامية منبثقة من المرجعية الدينية، لا أن تكون كياناً مستقلاً كما هو حال الاحزاب السياسية في جميع انحاء العالم.

إذن فان الثورة الجماهيرية والشعارات والتنظيمات الاسلامية والمرجعية الدينية، اذا كان يُراد لها ان تكون في الساحة، لابد أن تكون ضمن بناء هرمي واحد ومتماسك يشدّ بعضه الآخر، واذا فقد جزء من هذا الكيان، سادت الفوضى والديكتاتورية والفساد، ولن يتضرر القائد او الحزب ومن يعيش في ظله، إنما الثمن يدفعه الناس بدمائهم وهدر قدراتهم وثرواتهم، كما تلصق بالدين والاحكام الاسلامية كل سمات الفشل.

اضف تعليق