q

يحلو لبعضهم، وربما لكثيرين أن يقولوا ويرددوا - وأنا من بينهم-، أننا في العراق نعيش عصر الحرية، فما مدى صحة هذا القول أو الرأي، وهل أننا فعلا في العراق نعيش عصر الحرية، وقبل ذلك ما هو مفهوم الحرية الذي نعنيه، هل نتكلم عن الحرية السياسية، حرية الرأي، حرية الإعلام، حرية الفكر والأدب، الحرية الشخصية؟، كل هذه الأنواع تدخل ضمن إطار الحرية ومفهومها، فإذا قلنا أننا نعيش عصر الحرية، هذا يعني أن الأنواع المذكورة كلها مشمولة بقولنا ومكفولة من الانتهاك الحكومي الحزبي السلطوي بأنواعه.

هل يا ترى حريتنا مكفولة فعلا.. أم أننا نقارن بين حريتنا الآن عمّا كان يحدث في ظل الحكومات العراقية السابقة، لاسيما في عهد النظام السابق حيث كانت الحريات مضمرة في إطار فكر أحادي لا يسمح بالاختلاف معه؟، إن الإجابة عن هذا التساؤل تستوجب أن نعترف بأن سقف الحريات نسبي من حيث الصعود والهبوط، وفي الأغلب لا يمكن تحقيق نسبة عالية من الحرية ما لم تدعمها ضوابط أخرى، كالثقافة ومنظومة السلوك الاجتماعي والسياسي، وقوة القانون ومدى قدرته على ردع المتجاوزين.

فالحرية كما يصفها أهل الشأن من العلماء والمختصين، هي إمكانية الفرد دون أي جبر أو شرط أو ضغط خارجي على اتخاذ قرار أو تحديد خيار من عدة إمكانيات موجودة، فمفهوم الحرية يعين بشكل عام شرط الحكم الذاتي في معالجة موضوع ما.. والحرية هي التحرر من القيود التي تكبل طاقات الإنسان وإنتاجه سواء كانت قيودا مادية أو قيودا معنوية، فهي تشمل التخلص من العبودية لشخص أو جماعة أو للذات، والتخلص من الضغوط المفروضة على شخص ما لتنفيذ غرض ما، والتخلص من الإجبار والفرض.

هذا التفسير يستدعي جملة من الشروط كي يتحقق، فعندما نقول أن الحرية تعني حرية القرار الذاتي، وحماية الرأي، ورصد المساوئ السياسية والاجتماعية ووضعها تحت مجهر الضوء الإعلامي كي تصل الى من يهمه الأمر والى الجمهور العام، وهذا يعني انبثاق صراع بين طرفين، الأول الشعب، الثاني السلطة، أو الجهات التي تسعى للاستئثار بامتيازات السلطة، كالمال والنفوذ والقوة وسواها، ما يعني أهمية أن تكون الحرية مكفولة بقوة القانون ومدعومة بالمنظومة الثقافية السلوكية للمجتمع.

على أننا نلاحظ وجود تفاسير أخرى وأنواع مختلفة لمفاهيم الحرية، فمثلا هناك مفهوم الحرية السالبة والحرية الموجبة، وهذا يعود إلى الفيلسوف إيمانويل كانت.. فالحرية السالبة أو الشخصية هي إمكانية اتخاذ القرار دون قيود وهي حق طبيعي.. أما الحرية الموجبة فهي حرية معطاة أو إمكانية معطاة كي يستطيع الإنسان ممارسة الحرية السالبة (الشخصية) وهي حق إنساني أساسي، وفي العموم تبقى الحرية نسبية طالما أنها تتأثر بالظروف السياسية والاجتماعية التي تحيط بها.

الحرية في ظل قانون ضعيف

عودة على بدء، نتساءل الآن هل أننا نتنعّم في عصر يتيح لنا حرية مكفولة، فإذا أجبنا بالإيجاب، مطلوب منا أن ندعم ذلك بأدلّة مأخوذة من الواقع، لاسيما أننا نعيش في ظل قانون يمكن أن نسِمْه بالضعف، فكيف للحرية أن تُكفَل في ظل قانون يعاني من الوهن والتطبيق المتراخي، كذلك ربما لا نخطئ إذا قلنا أن ثقافتنا غير مؤهلة للقيام بدور داعم للحرية كما هي الحال في البلدان التي تعيش حرية أقرب الى القوة والحصانة والاكتمال.

نعم علينا أن نقبل بمثل هذه الأقوال التي يدعمها الواقع، نحن نعيش في ظل ثقافة مقصوصة الجناح، لا يمكنها الارتقاء إلى المستوى المطلوب والكافي لدعم الحرية وحمايتها من حالات الانتهاك التي تطولها هنا وهنا، من هذه الجهة أو تلك، من المتضررين خاصة من الإعلام (الصحافة المكتوبة والإلكترونية، التلفاز، مواقع التواصل الاجتماعي وسواها)، ولعل الأمثلة كثيرة على هذا الانتهاك في طول مساحة العراق بجهاته الأربع.

من هذه الأمثلة ما يطول الصحفيين والإعلاميين في كردستان، حيث يتم اغتيال من يجرؤ على إعلان حالة فساد أو تقصير وما شابه في هذا الإطار، وقد حاول الإعلاميون الكورد أن يعبروا عن رفضهم لحالات الانتهاك التي تتعرض لها حريتهم، لاسيما من الجهات السياسية، في مناطق أخرى من العراق يحدث شيء مشابه، حيث تتعرض حرية الرأي إلى الانتهاك، أما عندما يتعلق الأمر بفضح حالة فساد تنتشر رائحتها حتى تزكم الأنوف، فإن ردة الفعل غالبا ما تكون حاضرة من الجهات المتضررة.

وثمة أسلوب آخر يتعامل به المتضررون، ونقصد بهم القادة السياسيين والأحزاب ولا نعني التعميم هنا، بقدر ما نريد أن نؤكد بأن الحرية بمفهومها المعروف يتم استهدافها من تلك الجهات وفق أسلوب جديد، هو تجاهل مصدر الانتقاد والتنبيه، حتى قيل حول هذا الأسلوب، أن السياسي أو المسؤول الآن وضع (قطعة قطن) في أذنيه وسمح للجميع بالكلام أيّا كان نوعه، فالمهم لديه أن يحقق مآربه، ويقوّي مواقفه، ويحمي مصالحه (فرديا، وحزبيا، وكتلويا)، وليتكلم من يشاء، طالما لا يضر الكلام بمصالح المسؤولين أو الفاسدين، وهذا الحال يديمه ويقوّيه القانون الضعيف بطبيعة الحال.

كيف تُصان الحرية ومتى؟

إن مجرّد طرح هذا التساؤل (كيف تُصان حريتنا)، يمثل اعترافا بأننا لا نعيش الآن عصر الحرية، أو أننا نعترف بأن حريتنا (مثلومة) غير مكتملة، ما يعني أننا ملزمون بالبحث في السبل التي تعالج هذا الخلل الخطير، ونقول أو نصف هذا الحال بالخطير، لأننا في الواقع لا نمتلك من المزايا في عهدنا الجديد كعراقيين، إلّا القول بأننا نعيش في حياض حرية منتعشة ومكفولة، وهذا ما يميزنا عن البلدان التي تجاوزنا أو تحيط بنا.

فإذا خسرنا هذا الامتياز، بماذا يمكننا أن نتميز أو بالأحرى أن نتشدق، هل لدينا ما يمكن أن نختلف فيه عن الآخرين كي نكون دولة متميزة، وشعبا يتباهى بإرثه القانوني والثقافي الذي يمتد في بطون التاريخ آلاف السنوات؟.

من هنا إذا كان هناك بيننا من يحرص على حماية الحرية، وجعلها حرية فعلية مكتملة، لا ينبغي له الصمت والتراجع والاكتفاء بالتفرج على ما يحدث من حالات انتهاك للحرية، وخاصة تلك التي تطال الإعلاميين وأصحاب الرأي الحر، من المهم أن تبقى حريتنا مصانة من الانتهاك في جميع الحالات، وفي هذا الإطار ثمة سعي مطلوب من جميع المعنيين لنشر الخطوات التالية وجعلها ضمن الفعل الممكن:

- وضع خطط من شخصيات علمية ومؤسسات متخصصة لتجديد منظومة الفكر للطبقة السياسية تليها تجديد منظومة الفكر والسلوك في المجتمع كي تكون مؤازِرة للحرية.

- جعل القانون فاعلا وحازما.. فالقضاء العادل القوي الحازم قادر على حماية الحرية بأنواعها المذكورة في صدر هذا المقال.

- تربية النشء الجديد على الفكر الحر والسلوك المنبثق من الحرية المتوازنة.

- حثّ المؤسسات والمنظمات المعنية بنشر ومضاعفة الأنشطة التي تصبّ في هذا الاتجاه.

- تأسيس وتطوير عمل المؤسسات التي تتخصص في محاربة الفساد السياسي والمالي فهو السبب الأول في الوقوف بوجه تطور الحرية في بلادنا.

- رفض ما تتعرض له الصحافة والإعلام والعاملون فيهما،من انتهاكات تصل الى حد الترويع والاختطاف، من أجل إجبارهم على الصمت وتكميم أفواههم وتجفيف أقلامهم.

- رصد الجهات المغرضة التي تسعى للتصيّد في الماء العكر وتسيء الى جهات سياسية أو اجتماعية موثوق بها.

- زيادة حملات الترويج للفكر الحر وترويج حرية الرأي.

- نشر ثقافة الحريات بأنواعها عبر التربية الأسرية والتعليم في المراحل المدرسية كافة.

- على النخب الدينية والثقافية والقانونية والقضائية دور أساس في حماية الحريات.

اضف تعليق