q

وصلتُ على عجل الى باب المستشفى، بحثتُ عن ساحة أو مكان مناسب كي أركن فيه سيارتي وأذهب بوالدتي الى العلاج داخل المستشفى، لم أعثر على مكان مناسب وكانت حالة والدتي حرجة جدا، فهي تعاني من عجز في القلب، وهناك أعراض جلطة قد تصيبها، أوقفت سيارتي على عجل كيفما اتفق، وحملت أمي وركضتُ بها الى قسم الطوارئ، لم أتنبّه الى أنني حجزتُ إحدى السيارات بوقفتي الخاطئة والمستعجلة.

عندما وصلت بوالدتي الى الطوارئ، نقلوها فورا الى مركز العناية الطبية (الإنعاش)، وبدأ مجموعة من الأطباء والمعاونين لهم بفحصها ومراقبة حالتها، وأعطوها بعض العلاجات السريعة التي تمكنت من وقف تدهور حالتها لكنها لم تنهي صعوبة التنفس التي كانت تعاني منها، ولم تقضي على اصفرار الوجه والشعور بالدوار الذي أصابها، اضطررت الى البقاء قريبا منها عند باب العناية المركزة في الخارج، بانتظار ما سؤول إليها حالتها.

سألت الطبيب المشرف على مركز الإنعاش عن حالتها، وعن إمكانية أن تخرج الى البيت، فحذرني من التعجيل بإخراجها لأنها تعاني من بوادر ذبحة صدرية، إضافة للعجز الذي تعاني منه في قلبها، الأمر الذي استوجب بقائها في العناية المركزة لحين انجلاء الموقف وعودتها الى حالتها الطبيعية، وأخبرني الطبيب بأنهم سوف يقومون باللازم وسوف يقدمون لها الرعاية اللازمة، ولكن ينبغي أن لا أغادر المستشفى، وأكون قريبا منها خارج الإنعاش.

مرّ أكثر من ساعة ولا تزال والدتي تحت العناية المركّزة، في الحقيقة وسط حالة القلق والإرباك التي صرتُ أعيشها مع والدتي، نسيت سيارتي بصورة تامة، ونسيت أنني أحاصر إحدى السيارات بسبب اضطراري للوقوف في مكان خاطئ، فركنت سيارتي بطريقة ليست صحيحة ولا تراعي حقوق الآخر، فربما يكون صاحب السيارة يعاني حالة مرضية شبيهة لحالتي وقد يحتاج الى علاج او شخص ما، ربما يحتاج الى يُخرج سيارته من هذا المكان كي يستخدمها في جلب ما يحتاجه، لكن هذا سيكون مستحيلا لأنني أوقف سيارتي في المنفذ الوحيد الذي يسمح لسيارة ذلك الشخص بالخروج.

بعد مرور ساعتين تحسنت والدتي ولكن ليس بشكل حاسم، ورفض الطبيب إخراجها، فأخبرت والدتي والممرضة التي تقوم بعنايتها بأنني سأخرج لإيقاف سيارتي بصورة صحيحة، لأنني حصرتُ إحدى سيارات المراجعين للمستشفى مضطرا، والآن لابد أن أذهب وأصحح الموقف، ربما يحتاج هذا الشخص الى سيارته، وخرجتُ على عجالة راكضا الى سيارتي.

الهدوء يمتص غضب الآخر

من بعيد رأيت مجموعة من الرجال تحاول أن تدفع سيارتي من مكانها، ولكن هذا مستحيل لأنني أقفلت نوافذها وأبوابها ومحركها إلكترونيا، وقبل أن أصل بعشرين مترا لسيارتي رأيت أحد الأشخاص يحمل بيده حجرا ويتّجه الى نافذة سيارتي كي يهشم الزجاج لتحريك السيارة من مكانها، عندها صرخت بأعلى صوتي عليه، لا تكسر زجاج النافذة أنا وصلت سوف أحرك سيارتي.

لكن الرجل كان غاضبا جدا، فلم يصل له صوتي، وضرب زجاج النافذة بأقصى ما يستطيع، فهشمها تماما، وحينما وصلتُ بالقرب منه وعرف أنني صاحب السيارة كاد أن يهشّم رأسي بالحجر نفسه، فابتعدت عنه، وحاولت أن أتعامل معه بهدوء تام، شرحت للأشخاص الذين كانوا معه حالة والدتي، وأنها الآن في مركز العناية الطبية بسبب إصابتها بذبحة وعجز في القلب.

أحاط الرجال بصاحب السيارة المحاصرة، وهدّؤوه كثيرا وشرحوا له موقفي، ثم تقدمتُ منه وقبّلته واعتذرت منه وقلت له أن السبب هو حالة أمي الخطيرة، أجبرتني على أن أقف بهذه الطريقة، وتسببتُ لك بالأذى والتأخير وكررتُ اعتذاري، فقبل الرجل هذا الاعتذار وندم على كسره للنافذة، ومدّ يده الى جيبه وأخرج محفظة نقوده وقدّم لي مبلغا كبيرا من المال، فضحكت وقلتُ له أنا من أخطأ وأنا يجب أن أتحمّل مبلغ تصليح النافذة، ورفضتُ بشكل مطلق أن أأخذ منه النقود لإيماني بأنني السبب في كل ما حدث.

في هذه الحادثة، وقع خطآن، الأول أنا أتحمله بسبب إيقافي لسيارتي بطريقة خاطئة مضطرا، والخطأ الآخر يتحمله الشخص الآخر الذي حوصرتْ سيارته عندما هشّم زجاج نافذة سيارتي، ولكن في المقابل كان هنالك سلوك آخر منّا، أنا وهو، وهذا السلوك كان قمة في الأخلاق والتحضّر، فعندما رأيته يهشم زجاج سيارتي بحجر، لم أفقد أعصابي وأتجاوز عليه باللسان أو اليد، وأحيانا الإنسان يفقد السيطرة على لسانه ونفسه في مثل هذه المواقف، لكنني كنت مقتنعا بأنني أنا الذي أخطأتُ أولا بحقه.

أما هو فما أن عرف أنني كنت مضطرا لهذا الوقوف الخاطئ بسبب حالة أمي الحرجة، فسرعان من هدأت ثورته وانتهت عصبيته، وأعلن اعتذاره عما قام به من فعل متعجّل، أنا بالمقابل تصرفتُ بهدوء ولم أنفعل، وكنت وسطيا معتدلا في سلوكي، وهو كذلك عندما عرف الأسباب التي أجبرتني على هذا الوقوف، سرعان ما أعلن أسفه واعتذاره وتصرّف بطريقة هادئة ومتحضّرة، لدرجة أنه قرر أن يعوضني ثمن النافذة المهشمة.

هذا يدل على أن الأخلاق والقيم الإنسانية النبيلة، تفرض علينا أن نسلك طريق الاعتدال والوسطية والهدوء وتفهّم أوضاع الآخرين، فالإنسان في الغالب عندما يرتكب الخطأ، فإنه يكون مضطرا على ارتكابه إلا ما ندر، لذلك فإن الوسطية والاعتدال تعيد الأمور الى نصابها.

ربّوا أطفالكم على الاعتدال

من هذا الموقف، يتضح لنا أن الغضب مهما كان كبيرا ومتأججا، يمكن امتصاصه بالكلام الهادئ الجميل، والسلوك الحضاري، وكلما كان الإنسان متفهما للأسباب التي تقف وراء أخطاء الآخرين في حقه، كان ذلك سببا في إطفاء نار شر ربما تكون كبيرة، وربما تنتج عنها خسائر فادحة للطرفين، لهذا من الأفضل للإنسان أن يكون متفهما للآخرين بدلا من أن يكون غاضبا ومتعصبا وناقما عليهم.

أخلاق الاعتدال والوسطية تستدعي منا جميعا أن ننقل هذه القيم الى أطفالنا، وأن نربيهم على التسامح والهدوء في رد الفعل واتخاذ القرار، فهذا السلوك المتحضّر من شأنه أن يحمي حقوق الجميع، فضلا عن كونه يزيد من حالة تماسك المجتمع وزيادة لحمته ومضاعفة أواصر ووشائج العلاقات المتوازنة بين أفراده ومكوناته.

الوسطية هي قمة الارتقاء، والأخلاق، والاعتدال والوسطية صنوان وكثيرا ما جربهما الناس وقطفوا منهما ثمار الراحة والاستقرار والتفرغ للإنتاج والإبداع بدلا من الانشغال في الصدامات التي تحدث بسبب التسرع في الحكم على أخطاء الآخرين.

في السابق كان أجدادنا يقولون أن البشر خطّاؤون، وهذا يحدث في الحاضر أيضا، بمعنى أن الناس معرضون لارتكاب الخطأ، وهذا أمر وارد جدا، لأن الإنسان يتحرك ويعمل ويتنقل في وسط بشري متداخل، فلابد أن يحتك بهذا وذاك، والعلاقات المتداخلة مطلوبة لاستمرار الحياة، وقد تؤدي الى اختلاف وجهات النظر والرؤية الى الأمور، وهذا الاختلاف ربما يدفع بالناس الى الاختلاف فيما بينهم بسبب تضارب المصالح والتنافس وما شابه، وبالنتيجة، يكمن الحل في الوسطية، وتفهّم ظروف الآخر ومعرفة الأسباب التي تؤدي الى ارتكاب الخطأ.

في الخلاصة أن قيم الأخلاق، تدعونا الى توخي الحذر من العُجالة في السلوك وفي اتخاذ المواقف، وعلينا أن نتجنب رد الفعل السريع تجاه الأخطاء المرتكَبة بحقنا، فربما يكون الخطأ غير مقصود، وربما يكون الإنسان مجبرا على ارتكاب الخطأ بحق الآخرين، مثلما أخطأت أنا في إيقاف سيارتي مضطرا فتسببتُ بالمشكلة التي شرحتها لكم سابقا، من هنا فإن الاعتدال والوسطية يمكن أن تنقذنا من مواقف حرجة وخسائر لا تخطر على بال.

اضف تعليق