q

قد لا يأتي في بال الآباء والأمهات تلك الأهمية التي تحرزها تربية الأرواح، والتي توازي تربية الأجساد إن لم تتفوق عليها، فالحقيقة هناك كثير من الأجساد العليلة المصابة بعاهات معقدة أو كبيرة، لكن أصحاب هذه العاهات الجسدية برعوا في تطوير مواهبهم، وحققوا منجزات فردية كبيرة لامست سقف العبقرية، فعادت تلك المنجزات بالفائدة على عموم البشرية، وليس هناك أية مبالغة في أقوالنا هذه، فالتاريخ حافل بمثل هذه المواهب الكبرى، حيث يتعطل الجسد بنسبة عالية، لتجتهد الروح كي تسد ذلك الخلل والنقص في أداء الجسد لوظائفه.

ولكن لو انعكست الحالة وأصيبت الروح بالوهن، ماذا يمكن أن يحدث للإنسان، وهل بوسعنا أن نتخيل حجم الضرر الذي يلحقه مرض الروح بجسد الإنسان، تخيّل مثلا أنك أهملت تربية الروح لابنك أو ابنتك وتحولت الى فتاة وامرأة مدججة بالأحقاد والكراهية للناس من دون سبب، نعم فعندما تمرض الروح سوف تُلحق الأذى في من لا يستحق ذلك الأذى، وقد يظن مريض الروح أنه سويّ ومقبول من الناس، بيد أن الحال ليس كذلك بالطبع.

من هنا ركّز العلماء المختصون والدعاة الإيجابيون والخطباء والمفكرون والفلاسفة، على أهمية سلامة الروح، ولعل الكثير منهم فضّلوا الاهتمام بالروح قبل الجيد خاصة إذا جرت مفاضلة بين الجانبين، ولكن الصحيح هي حالة الموازنة في التربية التي تتلقاها الروح والجسد.

وكم هو قول بليغ ومؤثر وعميق ذلك الذي ورد في دعوة للسيد المرجع الديني صادق الشيرازي، عندما طالب بصوت صريح ومباشر:

(لنخطّط لأرواحنا قبل أن نخطّط لبطوننا وأيدينا وبيوتنا/ المصدر كتاب من عبق المرجعية/ فصل الأخلاق).

حقاً ليس هناك أكثر بلاغة وتأثيرا من هذه الكلمات القليلة التي أوجز فيها سماحة المرجع الشيرازي ما يستوجب القيام به تجاه الروح قبل الجسد، فالدعوة صريحة، تؤكد أننا مطالبون بالتخطيط للسمو بأرواحنا عاليا، ولا مفر من العلوّ بشأنها قبل البطون، وقبل تنظيف الأيدي من الأدران، بل حتى قبل تنظيف البيوت، وفي الحقيقة ما فائدة، أن نغسل أيادينا فيما أرواحنا محاصرة بالصدأ، وما فائدة ملء بطوننا وأرواحنا تقاسي من جوع مؤسف، وما فائدة السكن في بيوت نظيفة، وأرواحنا مطوَّقة بالخطايا والزلل؟؟، هذه تساؤلات واقعية تحتاج الى إجابات شافية وافية، حتى نعرف أين نضع أقدامنا، وما هو الموطن الصحيح لها، وهل فعلا علينا رعاية أرواحنا مثلما نملأ بطوننا ونغسل ملابسنا وأيادينا، وننظف بيوتنا من القمامة؟.

إذاً يحتاج الأمر الى وسائل علينا الاتكاء عليها، تحقيقا لتربية الروح، فهذا بحد ذاته من الأهداف الكبرى، ذلك أنك عندما ترعى روحك بعد التخطيط الملمّ والتنفيذ القويم، فإنك تكون قد حققت مرتبة عالية من النجاح في حياتك وفيما بعدها أيضا، وعلينا أن نفهم نقطة أكثر من مهمة بل وجوهرية، وهي تلك التي تتعلق بغلبة الروح على الجسد، فإن كنت صاحب روح ذات تربية مكتملة، سوف تكون صاحب جسد لا يتعبك بمطالبه وأخطائه، لكن لو انعكس الحال وكنت (لا سمح الله) صاحب جسد يقود الروح ويأمرها، هناك ستكون العواقب وخيمة.

هنا سوف يظهر بقوة دور الآباء والأمهات، فمنذ الخطوة الأولى للتربية، يجب أن يزرع الأبوان الخير والرحمة في تربة الروح، هنا سوف ينموا الأطفال بسلام، ويتوازنوا في حياتهم، قولا وفكرا وأعمالا، فلا مشكلة تحدث بسبب تناقض الروح والجسد، فالطرفان منسجمان بسبب التربية الروحية السليمة التي بدأها الأبوان منذ الشروع الأول في انطلاقة الحياة، ولعل أهم الوسائل التي يحتاجها الآباء والأمهات لتربية الأطفال، ذلك الاغتراف المستدام من نبع الأخلاق وبثه في الأرواح، عند ذاك سوف يكونوا في مأمن بإحاطة الأخلاق بالسلوك البشري.

ولكن ثمة مشكلة أخرى تعترض طريقنا، فالأخلاق وتحصيلها ليس بالأمر الهيّن، وليس من البساطة أو السهولة الحصول على الأخلاق الأصيلة، فنحن هنا نقف بين مفترق طرق، وعلينا التدقيق في الاختيار القويم، لذا سوف نكون مطالَبين بفهم الوسيلة التي تقودنا الى التربية الأحسن والأدق والأنظف، وإن كانت هذه الوسيلة صعبة المنال، إنها الأخلاق الفاضلة التي ينبغي أن نبذل لها كل شيء يمكننا من الوصول إليها.

يأتي في كلمة أخرى للسيد صادق الشيرازي هذا المعنى فيقول: (تحتاج الأخلاق إلى التفرّغ والجدّ والمثابرة من أجل بلوغ المراتب العالية فيها/ المصدر نفسه).

القضية بحد ذاتها ترتبط بتربية الروح، خاصة أن فطرة الروح تجعلها أرضا قابلة لاستقبال بذور الأخلاق، فتنمو في تربتها بسلاسة، لتنتقل الى الإنسان فكرا وعملا، فيكون بشرا أخلاقيا في منتَجِه الفكري والعملي، طالما أنه مغلّف بالأخلاق النابعة من منهل تربوي روحي عميق، وهذا لن يكون في متناول كل من يتمنى ذلك، إنه لا يمكن أن يحصل إلا بعد تقديم ما يكفي من قرابين التعب، تلك التي نبَّهَ عليها سماحة السيد صادق الشيرازي عندما قال (علينا بالجد والمثابرة لبلوغ الأخلاق)، فهو هدف سامي، من غير الممكن حيازته بالتمني وحده، أو الرغبة وحدها، فالمثابرة والإصرار والتعب لابد أن يكون قرينا دائما للرغبة في حيازة الأخلاق، أما هوى الإنسان فإنه يميل الى الدعة والراحة، والتهرّب من الشقاء والكدّ.

لكن طريقنا الى تربية الروح حصولنا على الأخلاق، والأخير لا يتم تحصيله إلا بمخالفة الهوى، ذلك أن الهوى ما تهواه النفس وما يريحها من رغبات، والخوف كل الخوف من رغبات النفس وهوى الإنسان الذي ينبثق من مفاتن الزلل، لذا علينا كبح الهوى ما أمكننا ذلك، فهذا التمرين المستمر هو طريقنا الثاني لتربية الروح، فيا أيها الإنسان:

(حاول أن تخالف هواك في كل الأمور، فإن كنت لا ترغب في أمر رغم اعتقادك بصوابه، حاول أن تخضع له بكل رحابة صدر/ المصدر السابق نفسه).

ختاما.. يلزم أن نربي أرواحنا، قبل بطوننا وأيدينا وبيوتنا، تربية الروح بالأخلاق، ومخالفة الهوى، تلك هي مقومات تربوية محسومة ومحسوبة بصورة دقيقة، ربما لا تقبل الخطأ، فإذا أراد أحدنا أن يحقق هذا الركن الأهم في بناء ذاته وكينونته، فقد لا يكون أمامه سوى هذا الطريق، وإن كان مرهِقاً ومتعبا وشاقا، ولكن بالنتيجة سوف يحدث ذلك الانسجام المدهش بين وظائف الجسد والروح في ثنائية تقود الكائن البشري الى مشارب الفوز.

اضف تعليق