q

أحوال العراق باتت تحت مجهر الإعلام، فلا شاردة أو واردة، ولا حادثة صغيرة أو كبيرة يمكنها أن تخفي تفاصيلها عن الرأي العام، فدائما تجد الإعلام يترصد مثل هذه الأحداث التي تخص حياة الناس، دولة وشعبا، ومن بين ما تمّ رصده ليس الآن حصرا، وإنما منذ وقت سابق، ظاهرة انتحار النساء، ونقول ظاهرة لأنها باتت تتكرر وتطفوا على السطح الاجتماعي على نحو لافت للنظر، لذا لم يعد بالإمكان غض الطرف أو السكوت على ما يحدث للنساء من ظلم وتجاوز بعضه منظّم تقوم به عصابات وشبكات متاجرة بالنساء.

وبعضه الآخر وهو الأكثر انتشارا في النسيج الاجتماعي، ونعني به العنف الأسري ضد المرأة، وهو ما يحدث له داخل الأسرة، فإذا كانت فتاة لم تتزوج بعد، فإنها تعاني من اضطهاد الأب والأخوة الذكور، وفي حالات أخرى حتى الأم من الممكن أن تصطف مع أفراد العائلة الآخرين لتكون ضد ابنتها الشابة، ما يعني فقدان آخر أمل في الخلاص من التوبيخ والعنف الجسدي واللفظي والمعنوي، هنا قد تصل الأمور بالفتاة الى التفكير بالموت، فلتلجأ للتفكير بطيرقة ما لإنهاء حياتها، وقد نقلت وسائل الإعلام الكثير من حالات الانتحار لفتيات ونساء في عموم البلاد، وخاصة في الجنوب العراقي.

وعند الحديث عن النساء المتزوجات، فإن مصدر العنف ضد المرأة غالبا ما يكون زوجها، بالتعاون مع أسرته أي أبوه وأخوته الذكور وأخواته وأمه، نعم من الممكن أن تكون عائلة الزوج بجميع أفرادها مناوئة لزوجة الابن الذي يكون هو مصدر الأذى الأول وربما الأكبر لزوجته، هنا لا يجدي الصبر ولا حتى التعامل بالحسنى، خصوصا أن الأمر سوف يصل الى درجة الاستعباد، فالزوجة التي تفكر بحكمة وتخضع لطلبات الزوج وعائلته، ستواجه المزيد من الطلبات والأوامر المتعسفة، وهكذا يجتمع جميع أفراد أسرة الزوج ضد الزوجة في التوبيخ اللفظي ومن ثم استخدام العنف الجسدي، هنا لم يبق للزوجة سوى طريقين، إما الهرب خارج بيت الزوجية الى أهلها أو مكان بديل، أو الرضوخ لهذا التعذيب البطيء القاتل.

وما يزيد الطين بلّة، عندما تصطف عائلة الزوجة (أبوها وأمها وأغلب أفراد أسرتها) مع عائلة الزوج، هنا في هذه الحالة فإن فقدان الأمل بالخلاص سيدفع الزوجة في الغالب الى الانتحار، لذلك نسمع بين الحين والآخر زوجة تقتل نفسها حرقا، وأخرى شنقا، وثالثة فغرقا، ورابعا تلقي نفسها من عمارة عالية وهكذا، أما إذا جاهدت كي تتأقلم مع الوضع العائلي الزوجي المذلّ، راضخة الى الأوامر التعسفية والامتهان الذي يمسخ شخصية الزوجة ويسومها مر الهوان والعذاب، فإن الأمر لا يمكن أن يستمر على هذه الشاكلة، فعندما يرى أعضاء عائلة الزوج هذا النوع من الرضوخ لا يكتفون بالقبول والرضا والصمت، وإنما ستظهر بوادر تجاوزات أخرى على المرأة تدفع بها نحو حافة الموت لحظة بعد أخرى.

قانون معطّل عن العمل

تم رصد هذه الظاهرة التي أخذت تتفاقم في المجتمع العراقي، فقد أعلنت الأمم المتحدة في العراق مؤخرا وقوع 53 حالة قتل ومحاولة انتحار لنساء عراقيات خلال فترة ثلاثة أشهر. وبحسب وزارة الصحة بإقليم كردستان، سجلت أكثر من 740 حالة انتحار لنساء أحرقن أنفسهن خلال الأشهر الأولى من العام الحالي.

فيما أشارت وسائل إعلامية الى تزايد حالات انتحار النساء العراقيات حرقًا، ما يثير التساؤلات عن جرأة المرأة على فعل ذلك وعن دوافع استخدامها هذه الوسيلة للتخلص من حياتها، فقد أقدمت فتاة في الحادية والعشرين من عمرها على حرق نفسها في محافظة بابل، نتيجة مشاكل عائلية، وبحسب الباحثة الاجتماعية (ع ، ج)، فإن عبارة مشاكل عائلية مصطلح فضفاض يحتمل الكثير من التفسيرات. علما أن حالات الانتحار حرقًا لا تقتصر على الشرائح الفقيرة في المجتمع فحسب، بل تشمل الطبقات الغنية أيضًا، كما أن تفاقمها في السنوات الأخيرة يحتاج إلى دراسة جدية للنظر في حيثيات هذه الظاهرة ومعالجتها على النحو المطلوب.

ومن بين خطوات المعالجة، كتابة قانون يعالج العنف الأسري الذي تعاني منه المرأة، ليس المتزوجة وحدها، وإنما حتى الفتيات قبل الزواج، فهنالك الكثير من حالات الإكراه التي تتعرض لها الفتاة قل الزواج، فيتم إجبارها على الزواج من رجل أكبر منها، أو أحيانا ضمن زواج (الكصة بكصة)، وأحينا يتم تزويج النساء ضمن ما يسمى بالفصلية، أما حالات الإجبار في التزويج فهي كثيرة، وغالبا ما تقف وراءها قضايا مادية، كأن يقدم الزوج مبالغ ضخمة لعائلة الفتاة، فيلجأ الأب والأم الى إجبار البنت تحت حاجة العائلة للمال، ا, من باب الإغراء لمواجهة الفقر، وأحيانا تندفع الفتاة نفسها للاقتران بزوج يكبرها كثيرا بالسن مقابل إغراءات مادية مثل شراء بيت فخم أو سيارة فارهة، أو مصوغات ذهبية وما شابة.

لكن معظم هذه الزيجات تنتهي الى الفشل، وغالبا ما يتخللها عنف أسري تكون ضحيته المرأة التي قد يصل بها الحال الى التفكير الجدي بإنهاء حياتها، وما يزيد التعقيد من هذه الحالات، أن المرأة تفكر وتخطط للموت بسرية تامة إلا ما ندر، وتنهي حياتها بصورة مفاجئة حرقا في الغالب.

ما هي البدائل والحلول المقترحة؟

هل هناك بدائل وحلول مناسبة يمكنها أن تضع حدا لمثل حالات الانتحار هذه، أو على الأقل التقليل منها؟، يقول باحثون اجتماعيون أن ظاهرة انتحار النساء لا يمكن معالجتها إلا في حالة تضافر الجهود الحكومية والمنظمات المعنية، وسواها ممن يجد نفسه معنيا في الانخراط في مثل هذه القضايا الاجتماعية، فالحكومة ينبغي أن تضع برنامج عمل واضح المعالم منسق ومعد ومدروس سلفا لمواجهة هذه الأزمة الاجتماعية، أما بالنسبة للمنظمات المدنية الداخلية او الدولية، فإن دورها هنا سيكون كبيرا ويمكنها أن تقوم بنشر توجيهات تخفف من اندفاع النساء الى مثل هذه الأعمال.

والأهم من ذلك هو التوجّه الى تحسين التعامل الأسري مع الزوجات والنساء بشكل عام، إذ من غير الجائز أن تهان المرأة المتزوجة من عائلة زوجها او من الزوج نفسه، لمجرد أنها امرأة أو زوجة، فهي في جميع الحالات كائن مكتمل له حقوقه التي ينبغي المحافظة عليها، أما الواجبات فهي معرفة ولكن ينبغي أن تكون هناك روح المشاركة من لدن الجميع بخصوص الأعمال البيتية وعدم تحميل هذه الأعمال وأعبائها على كاهل الزوجة وحدها، كذلك ينبغي الابتعاد التام عن إجبار الفتيات على الزواج بالإكراه من رجال لا يناسبون أعمارهن أو أذواقهن واختياراتهن.

ولابد من البحث في القانون الذي ينبغي أن يتم تشريعه بشكل فوري من مجلس النواب، والذي يسعى لمعالجة ظاهرة العنف الأسري في المجتمع العراقي، والذي أدت بدورها الى ظاهرة أخرى تتمثل بتعدد حالات الانتحار بين النساء، لذا مطلوب أن يوضع هذا القانون بما يناسب أوضاع النساء في العراق، وأن ينصف المرأة على نحو تام، وأن يحميها من التجاوزات كافة، وأن يوازن بين قطبي (الحقوق والواجبات).

فلا يسمح بظلم المرأة المتزوجة أو غيرها، ولا يعطيها الحق بالتمادي أو إلحاق الأذى بالآخر، لذا من المهم أن يتم إقرار هذا القانون من لدن مجلس النواب بالسرعة الممكنة، وأخيرا لا ننسى الدور المهم الذي تقوم به الجهات والشخصيات الدينية من دور توجيهي يشمل الرجل والمرأة على حد سواء للتقليل من مخاطر هذه الظاهرة الآخذة في النمو والتفاقم.

اضف تعليق