q

ان وقود كل تغيير حصل في العالم سواء قديما ام حديثا كان بهمم الشباب وسواعد الشباب فالانبياء شباب واتباعهم شباب ومؤسسو حركات التغيير شباب واتباعهم شباب وقادة الثورات شباب وفرسانها شباب... الخ

فلا غرو إنّ كان الشرق مهبط الديانات واعرق الحضارات وارض الثقافات وورشة الاختراعات وينبوع الثروات وكنوز الطاقات وتنوع فنون الابداع وسبل العطاء وحلقة الوصل بين الامم وعمق التاريخ ذو الثقافة المشتركة والفكر الخلاق والذوق المتميز...!! ورغم ما هيمنت عليه من انظمة الدكتاتورية ومشايخ البدوية وفتن المذهبية وصراعات اثنية. بما رسخته مناهجها سواء بمناحي العنف والفساد ام بتهميش مواطنيه او بالإسراف بخوض معارك خاسرة او بسياقات تخلفه المعرفي وانحطاطه الثقافي وتقهقره التكنولوجي وغياب الانتاجية وانعدام الابداع واختفاء مناهج النهضة وفقدان المشروع الحضاري.. !!

لكن تبقى الفتنة المبرمة والطامة المهلكة المحيقة به الان اصبح ساحة للكوارث والازمات ومنطلقا للهمجية والهجمات التدميرية ومبعثا لانتهاك ابسط المعاير الاخلاقية.. تتقاذفه الصراعات في داخل كينونته وتتجاذبه جماعات وكيانات وتنظيمات في الغالب متأسلمة دموية متحجرة وبعضها قومية انفصالية والاخرى قبلية انعزالية، وسياساتها الانسلخ والتشظي وثقافاتها الكراهية والتكفير والانغلاق ومناهجها الابادة والتفخيخ والذبح ونظمها المتاجرة بالمثل والعبث بالعقول... حتى غدا بؤرة لكل جرائم التوحش ودائرة للتنابز والتطاحن ومرتعا للتسابق بتخريب الاثار وحرق كنوز التراث وملاذا لشذاذ الافاق واصحاب العاهات.. حتى ان الدنيا باسرها تتوجس منه كل عضال وتخاف منه كل عدوان وتخشى منه كل سفك ودمار.. بل ولا امن فيه حتى لأهله لا حياة لساكنيه الا الرعب والنهب والاغتصاب.. لذلك ورغم كل مأسي الهجرة لم يروا بدا من الفرار منه والنزوح عنه وتتهجّر من أراضيه كفاءات وعقول، وتتعمّق في المجتمع الواحد نعرات لمزيد من الانقسامات على أسس إثنية أو طائفية أو مناطقية أو قبلية.

بل وصلت حالة التشظي والتشرذم والتناحر في كيان الأمة الواحدة الآن "هويات" جديدة على حساب الهوية الوطنية. بعض هذه الهويات "إقليمي" أو "طائفي" أو"عشائري".. الخ ولعل كلها هذا يسير ضمن مشروع مرسوم تنفذه اجندة داخلية ظلامية (يخربون بيوتهم بأيديهم) ومن المؤسف في واقع الحال هذا، أنّ التعامل مع هذه التحدّيات والهموم المشتركة لا يتم الا في إطار رؤية واعية وعقلية ناضجه وحوار تسامحي لصياغة مشروع يصون الحق ويردع العدوان ويحقق المصالح والاهداف السامية.

رغم ان العالم المتحضر من حولنا يتنافس بإنشاء التحالفات وصياغة التكتلات وبناء الاتحادات للتكامل والقوة وجذب الاستثمارات ويسير في افاق غير معهوده من التسابق بالتطور والابتكارات والانجازات بأبعاد فاقت التصورات للتواصل وتغيير الجينات واستكشاف المجهول!

وأؤكد الآن نحن على مفترق طرق: إمّا أن نرسخ قيم التعددية والانفتاح والتسامح والحرية والديمقراطية.. في عالم السماوات المفتوحة والعولمة والطفرات العلمية.. أو نستمر في بناء الجدران التي تفصل الثقافات والناس وتُفاقم الاطر الضيقة المتطرفة القومية والطائفية والعشائرية وتزيد من الفرقة وتبعث الكراهية والانقسامات، والبعيدة عن قيمنا وكما تعتدي على إنسانيّتنا المشتركة.

وهنا لابد لا بد الاستفاقة من طول السبات والصحوة من السير في التيه.. والتأكيد على أهمية التمسك بالموضوعية في عرض الحقائق التاريخية والاخذ بالمشتركات والمصالح المتبادلة والتجرّد في تعاملنا مع التحديات التي تواجهنا اليوم، وفي مقدمتها الإرهاب والاستبداد والفساد والتطرف والطائفية والانغلاق.

كذلك، لا بد من التركيز على قيَم المحبّة والسلام والاحترام، كيْ ينشأ جيلٌ يؤمن بالتعايش مع الغير واحترام قيَمه. وهو مشروع بحاجة إلى تكاتفنا جميعًا من أجل المساهمة في صوْغ فصول تاريخنا المبنيّ على الحوار والتعاون والتكامل، لا على الصراع والتصادم. وهنا تقع مسؤوليّة كبيرة على عاتق المؤسسات الدينية والتربوية والمراكز الاعلامية والنُّخب الفكريّة والنظم السياسية في الانعتاق من متاهات اللغو والتلفيق والتهميش.. والتكاتف من اجل النهوض لتشكيل معالم المستقبل وتغيير العقلية وارساء قواعد ثقافة جديدة فلا بد من العمل المعرفيّ الدؤوب، والمتابعة المتبصّرة، والميْل النّقدي المسؤول، والرغبة في التغيير والتجدّد.

كما يتحتم في سياق التغيير وضع ضوابط مشددة وعقوبات رادعة لكل من يثير الفتن والنعرات والشغب..

لقد أصبحت أجيالنا الشابة محاصرة بالاطروحات والرؤى التي لا تقدم للمواطن سوى "سيناريوهات" التكفير والذبح والتقسيم للدول وإعادة تركيبها على أسس إثنية وطائفية ودينية جديدة. ومن الضروري التوقّف عن بثّ رسائل التخويف والترهيب واليأس إلى أجيالنا الشابة، والعمل على تشجيع روح المبادرة والتطلع نحو مستقبل أفضل؛ آخذين بعين الاعتبار أنّ الإنسان، بعلمه ومعرفته وقدرته على البحث والتقصي والريادة والتميز، هو الثروة الحقيقية لأي مجتمع إنساني.

ومع اختلاط الرؤية واختلال الموازين وعدم وضوح الهدف، تنامى لدى الشباب الشعور بالإحباط واليأس، ما دفع بعضهم للتفكير في اتخاذ واحد من خيارين أحلاهما مرّ: الأول هو التفكير بالهجرة من الشرق الذي أصبح الشباب ينظرون إليه على أنه سفينة متهرئة غارقة لا محالة، والثاني هو انضمام بعضهم إلى الجماعات المتطرفة لأنها تقدم "مشروعا بديلا" لا يقوم على أسس منطقية أو دينية صادقة، لكنه يقدّم وعودًا تخاطب مشاعر الشباب المغيّب عن الواقع وكيفية التعاطي معه بعقلانية.

هكذا حوصر شبابنا بمشاعر الإحباط وغياب الأمل من كل حدب وصوب، ما ينذر بحرمان الشرق من كفاءاته الخلاقة وطاقاته المنتجة وعقوله المبدعة على المدييْن المتوسط والبعيد. وسواء أكان هذا مقصودًا أم جاء نتيجة لغياب الرؤية الكلية للأحداث، فالنتيجة واحدة، وهي أن الانكباب على الحدث اليومي المباشر والخبر العاجل من دون وجود بدائل مقنعة ورؤى كلية للشباب يؤدي إلى كسر الإرادة وإفقاد الرغبة في الحياة. كما ينذر بالعواقب الوخيمة على الوطن العربي وطاقاته البشرية.

لقد مرت هذه الأمة في العقود الماضية بأنفاق مظلمة وظروف معقدة وتحديات كثيرة ظلت تتراكم وتتعمق حتى وصلت ما وصلت اليه الان من أحداث جسام وطامات عظام في هذه الحقبة من تاريخها، لكنها قادرة اذ توفرت الارادة والمشروع التغييري الشامل الموضوعي بقيادة الحكماء واهل الرشد على اجتياز الصعاب وقهر العقبات إذا ما استوثقت بالرؤية النهضوية التي وحّدت صفها وجمعت قواها واستثمرت مقدراتها للدفاع عن حقها في الوجود ولحماية كينونتها وهويتها من أخطار الطمس والإلغاء والمصادرة.

علما بان الفتية وحواري واصحاب الرسل وتبليغ الرسالات نهض بها الشباب وكذلك الثورات التحررية والنهضات الاصلاحية والحركات التغييرية قادها وتحمل اعبائها الشباب.. !! فالشباب هم الطاقة الانسانية المستدامة والرصيد الاستراتيجي، وهم الثروة الحقيقية.

اذن نحن بأمس الحاجة اليوم إلى تذكير الشباب القيام بدورهم التاريخي والخطير في تبني مشروع القيم النهضوية الفكرية والثقافية والعلمية والمعرفية وبالاغتراف من قيم الاصالة والاخذ بأسس التنوير وبأنماط الحداثة... فبهذه القيم يستعيد الشرق الريادة بالمبادرة ويكونوا فاعلين في تحديد مصيرهم ورسم معالم مستقبلهم وبالمشاركة في بناء الحضارة الإنسانية، التي ارتسمها الاجداد، وسار عليها من سبقنا من الامم، نستطيع أن نمنح شبابنا الأمل وننتزعهم من براثن اليأس والإحباط. وبكسر قيود التطرف ونفض غبار التخلف ليفرضوا وجودهم ويحافظوا على هويتهم وحقهم في الحياة وسنن التطور ومفاهيم التمدن ومعاير التنمية البشرية.

إن هذه المفاهيم صالحة لكل زمان ومكان. وكما كانت سببًا في نهضة الأمة في الماضي، فإن المطلوب اليوم أن نرجع إلى هذه القيم النهضوية ونستعيد المبادرة ونعطي الشباب الأمل الذي يراد لهم أن يفقدوه. إن الاعتصام بهذه الرؤية النهضوية هو السبيل الوحيد لمواجهة التحديات المصيرية والأخطار الكبرى وتمكين الأمة من تحقيق نهضتها الجديدة الشاملة المرجوة.

إننا، بمعنى أكثر تحديدا، بحاجة ماسّة إلى رؤية تنويرية جديدة تستلهم قيَم الماضي النهضوية العريقة، وتعيد إحياء دور التلاقح الفكري والحوار المنطقي وفتح افاق التعايش السلمي والتواصل الاممي لمواجهة أخطار الارهاب والتطرف والجهل، ولكن من أجل التصدي بعمل مؤسّسي لأمراض الأمية والفقر والبطالة والفساد التي لا تقلّ فتكًا عن التحديات الخارجية. وضمن هذا الإطار، تكون كرامة الإنسان مكفولة وتُستبدل بالنظرة القاصرة للاجئ على أنه عبء النظرة الواقعية المنصفة إليه على أنه كفاءة وطاقة يجب أن تُستثمر في عملية البناء والنهوض للأمة بأسرها.

اذن حان الأوان استعادة المبادرة وإعادة الأمل إلى شبابنا برسم خارطة طريق عقلية تغييرية للوقوف سدًا منيعًا أمام الأخطار المحدقة بنا. ولا يساورني شك في أن قيَم الوعي الحضاري ومباديء العصرنة تجري في عروق الكثيرين من أبناء هذه الأمة، وهؤلاء هم من يعوّل عليهم تمل المسؤوليات الجسام لإحداث النهضة المرتجاة والتبشير بدولة العدالة العالمية. أما موتى القلوب، فلا أمل فيهم ولا جدوى من توجيه الخطاب لهم من حيث المبدأ قال تعالى: (إنك لاتسمع الموتى ولاتسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين) النمل:80

hilal. [email protected]

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق