q

عندما نريد رصد ودراسة المواقف أو الظواهر الناتجة عن موقف معين سواء كان دينياً أو ثقافياً؛ لابد من الأخذ بنظر الاعتبار أن تحليلنا خاضع لمنطق فهم الحاضر واتصاله بالماضي من جهة، ثم ينطلق للمستقبل من الجهة الأخرى للفهم.

وعادة ماتكون المواقف المرتبطة بالدين هي الأقرب لاهتمام الراصد أو الدارس؛ وذلك لما للدين من حضور فاعل وروحاني ويمكن أن يعبر عن المستقبل من خلال الراهن، فضلاً عن علاقته الفطرية مع الفرد؛ لذلك لايمكن لأي شخص يتصدى لتحليل حالة او موقف يرتبط بالدين أن يغض النظر عن منطق الارتفاع والتسامي، ومايستتبعه من سلوكيات. وهذا لايعني أن يكون تحليله عاطفي بعيد عن أي منهج.

أما اذا اتخذ النقد طرف المنهج بعيداً عن أثر البعد الديني؛ فإنَّ خللاً مؤكداً سيصيب الدراسة حتى وإن تقنّعت بمفاهيم حضارية؛ لأنها ستعاني من عدم الموضوعية اثر غض النظر عن البعد الديني.

واليوم تنتعش مثل هذه المناهج المبتورة، خصوصاً مع شيوع مصطلح (أنسنة الدين) وهو كمصطلح يحتاج لكثير من الدراسة والبحث لإشباعه. ومفهوم أنسنة الدين يمكن دراسته من بعدين :

ينظر البعد الأول لمصطلح (أنسنة الدين) من زاوية النص الشرعي الذي يمكن - بحسب بعض الآراء - مساواته بالنص الإنساني الاعتيادي، وبالتالي هو خاضع للنقد، وكأنّه مثل أي عمل أدبي، هذا البعد لا يمكن أن يحصل على مقبولية، خصوصاً من الذين يلتزمون بالأحكام السماوية، لأنه يصطدم مع متبنياتهم ومعتقداتهم الإيمانية، فضلاً عن عدم قبول المنطق العقلي لهذه الفرضية، لأن تصنيف النص السماوي على أنه نص شبيه بالنصوص البشرية يجعله عرضة للاختلاف، وهو ما سيؤدي إلى خلخلة كبيرة في المفاهيم و المعايير، قال الله تعالى في كتابه العظيم: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا - النساء82"، والآية الكريمة تفند كل الفرضيات القائلة بأنسنة النص الديني وفق الفرضية السابقة.

البعد الآخر الذي يمكن نحلله من خلال مصطلح (أنسنة الدين)، هو بعد إيجابي يركز على الجوانب الأخلاقية والتربوية التي يؤكد عليها الدين بهدف وصول الإنسان إلى مرحلة تكاملية من شأنها دحض كل الإشكاليات التي تثار حول الدين خصوصاً في العقود الأخيرة، لو أردنا تفكيك هذا المصطلح، نجد أنه من المفيد أن ننتقل من عمومية مفردة (الدين) إلى جزئية مهمة منه، وهي جزئية (الخطاب الديني) فيكون المصطلح (أنسنة الخطاب الديني)، ونعتقد أن مثل هذه التسمية أقرب للواقعية والموضوعية خصوصاً مع التداعيات الكثيرة التي يشهدها العالم اليوم بسبب الخطابات الدينية غير المنضبطة، والمنفلتة من التعاليم الدينية وجوهرها الأخلاقي، لذلك نرى أن التركيز على أنسنة الخطاب الديني من خلال إعادة إنتاجه للآخر كفيل بأن يجعلنا قريبين مع العصرنة وضروريات التماهي معها للوصول لعالم بلا تشنجات وإرهاصات، مدعومين بقول القرآن الكريم: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن - النحل :125"

ومابين هذين البعدين انطلقت الدراسات والمقولات الكثيرة التي حاولت أن تخلط الأوراق عبر تضبيب مفهوم (الأنسنة) مرتكزة على البعد الأول والمتعلق بعلاقة الإنسان مع النص المقدس، بل وساهمت واجتهدت في استخدام المصطلح بهدف تسقيط أي جهد فكري يحاول أن يعيد مسار العلاقة التكاملية بين الدين والفرد عبر اتهام هذه الجهود بأنها تجنح نحو الخرافة من خلال الترويج لطقوس خرافية تسيء لجوهر الذات الإنسانية، وهذا خلاف الواقع، وإلا كيف يمكن اتهام من يدافع عن الحريات الدينية وعن ممارسيها بأنهم يروجون لطقوس شعبوية؟!!

في الحقيقة إن الطقوس والشعائر المختلفة التي تمارس من اجل التطهير، لها جذورها وامتداداتها في الأديان المختلفة، لكن الغريب أنها ماإن تُمارس من قبل شبان لاستذكار حدث كبير شكل منعطفاً هائلاً في العالم الإنساني وهو حدث استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، حتى نرى الأقلام وهي مُستنفرة استنكاراً لطقوس وشعائر المواساة في نظرة ضيقة وأحادية تخلو من الموضوعية والوضوح، حتى أن أحدهم وصف من يمارس هذه الطقوس بأنهم أشد وحشية من الارهابيين القتلة ، مثل هكذا تصورات تجعلنا ننظر بعين الريبة والشك تجاه الذين يطلقون مثل هذه التوصيفات الانفعالية الخالية من منهج او منطق بذريعة الدفاع عن الحضارة الانسانية، أو للترويج لأنسنة مُربكة.

ترى مالذي يمنع أصحاب الأنسنة أن يدرسوا ـ وفق البعد الثاني ـ الظواهر المتعلقة بالممارسات الدينية وفق منظور علم الاجتماع والوصول لنتائج يمكن الاعتماد عليها لاحقاً؟ بل ويمكن أن تساهم هذه الشعائر في حال تمت دراستها بإنصاف وتجرد في صياغة خطاب ديني مؤنسن، حيث الممارسات والطقوس محسوبة على مذهب معين من ديانة معينة، بينما يرى العالم أن الهويات المختلفة دينية أو عرقية تشارك بها بكثافة وتتفاعل معها عاطفة وممارسة.

أعتقد أن دراسة تحليلية منصفة تدرس الظواهر تاريخياً واجتماعياً أفضل من اعتماد منهج تسقيطي لن ينفع بشيء قدر مايساهم في زيادة مساحة الضباب الفكري من جهة، ويضع مزيداً من علامات التعجب والاستفهام للآليات النقدية الرمادية.

اضف تعليق