q

صار الحديث عن فشل المشاريع الفكرية والفلسفية الداعية لـ (علمنة) المجتمعات عبر إقصاء القيم الدينية حديثاً صريحاً واضحاً، بعد التصادم المفاهيمي والفكري بين الأقطاب الداعية لهذا المشروع من ليبراليين ويساريين ومحاولة فرض أحقية هذا الطرف على الآخر لحد أن أخذ التصادم أبعاداً لاعلاقة لها بالمعرفة والحوار.

وإذا كانت تلك المشاريع ظهرت كرد فعل على الممارسات الكنسية التي ولدت ردود افعال عكسية وبسببها انطلقت مقولة (كارل ماركس) الشهير: (الدين أفيون الشعب) وليس الشعوب كما هو شائع، ووجدت لها رواجاً انفعالياً في بداية الأمر؛ فإنها اصطدمت بجدار يصعب اختراقه في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، حيث أظهرت الكثير من استطلاعات الرأي العالمية، أن الدول العربية والإسلامية ومجتمعاتها من أكثر المجتمعات تديناً في العالم، وإن الدين حاضر فيها وبممارساتها الحياتية المختلفة بشكل قوي وكثيف.

ويرى (فهمي جدعان) أن العرب كانوا يشكون من (ألف علة وعلة) باحثين عن الخلاص، "والقائلون بالخلاص كثيرون برغم اتساع قاعدة اليأس والقنوط، بيد أننا نستطيع أن حين نفكر في المسألة بقدر من العمق أن نتبين المنظومات المتبقية التي تقدم وعوداً بالخلاص ترتد إلى ثلاث رئيسة:

المنظومة الأولى: هي التي يتمثل أصحابها (دين الإسلام)، بوجه من الوجوه ويجعلونه مبدأ لأيديولوجيا الخلاص النهائي أو الحاسم

المنظومة الثانية: هي تلك التي يلهج بها العلمانيون، والآخذون بها يتمسكون بإزاحة دور الدين من الشؤون العامة للمجتمع والدولة أو بـ (الحياد العقيدي والأخلاقي)

المنظومة الثالثة: هي التي تؤكد أن الخلاص لايمكن أن يتحقق إلا بعملية إصلاح شامل تتخذ من (الحرية) سبيلاً وحيداً للخروج من المأزق، أي أن الخلاص النهائي والحاسم يكمن في الليبرالية التي تريد أن تقترن بالديمقراطية"1

يبدو من المنظومة الثانية (العلمانية) أنها منظومة إقصائية وما حديثها عن (حياد) أخلاقي سوى قناع تم كشفه عبر التجارب المجتمعية الكثيرة التي تبنت العلمانية وظلت تتعاطى مع القيم الدينية الحاضرة بقوة في مجمل الفعاليات الحياتية حتى صار التبني العلماني حالة تناقض يشار إليها ببنان واضح خصوصاً مع بعض طروحات العلمانيين ــ يؤكدون أنهم صوت من الداخل الإسلامي ــ ومنهم (محمد أركون) الذي ينفي الفقه والاجتهاد عن الآخرين، عاداً نفسه الفقيه الأوحد، حتى مع عدم تبنيه لأي مسلك أو منهج، حيث يكرر أن التأكيدات الإسلامية على حقوق الإنسان، وحفظ الكرامة البشرية، ماهي إلا (منافسة محاكاتية)، وتقليد لمبادئ الثورة الفرنسية!

وهو بذلك يعبر الزمان والمنطق والعقل بقفزة تنظيرية واحدة؛ وكل ذلك من أجل نفي حقيقة القوانين الإلهية التي تنظم سير الموجودات، و التشديد على أن منشأها منشأٌ بشري خاضع لجدلية الثابت والمتغير، وكأنه يريد أن يبتكر علمانية تقصي الدين بإطار ديني بحيث يريد من الباحث الديني أن يتعود على سلخ القيم من المنهج ، وعدم التأثر بالدين كمعطى سماوي، وهو طرح لاينسجم مع (الحيادية) المفترضة للعلمانية؛ لأن الحيادية لاتعني مساواة الشيء بنقيضه، نعم، مكن التعرف على حقيقة الأشياء عبر دراسة نقائضها وحيثيات هذه النقائض، كما في قول الشاعر : " وبضدِّها تتعارف الأشياءُ ". لكن الاجتهاد في عملية دمج مشوه بين المتناقضات، ثم ادعاء الحيادية في هذا بعد ذلك يبدو من الأمور التي أقل مايقال عنها أنها غير منطقية.

كما أنه (أركون) يعتقد بأن مهمة الباحث تكمن في (أشكلةproblematisation ) الأفكار التي تنتج المعنى.

في المنظومة الثالثة، تحضر الليبرالية كخيار أخير للخلاص شريطة اقترانها بالديمقراطية، وهنا قد نستحضر بعض النماذج الليبرالية لبعض البلدان قبل فترة مايعرف بـ (الربيع العربي)، فهي حيث الأنظمة الليبرالية التي تتبنى (ظاهرياً) الديمقراطية، مايعني أن شرط المنظومة الثالثة أعلاه متحقق، لكن الذي حصل هو مزيد من الاضطرابات الاقتصادية والمعاشية لشعوب تلك البلدان التي ثارت على هذه الديمقراطية الشكلية وأزاحت المتسلطين عليهم تحت يافطتها.

وفي الحقيقة لم تكن ثورات (الربيع العربي) سبباً رئيساً في تقلص مساحة الليبرالية على الخريطة الفكرية؛ لأن ممهدات كثيرة قبل هذا الفصل الربيعيّ الساخن قلصت من هذه المساحة، من أهمها افتقار الليبرالية إلى لغة خطاب متطور يعي مرحلته الزمنية وظرفه المكاني، مضافاً لها صدام الأنماط الفكرية بين بعضها البعض، أو محاولة متبني هذه الأنماط فرض وجودهم ورؤاهم بأية طريقة على حساب الآخر المختلف كالموقف اليساري الحاد تجاه السلطات السياسية الليبرالية، وبروز المفاهيم والسلوكيات الثورية، والممارسات الفوضوية، في مقابل نشوء أحزاب تتمظهر بمظهر الديمقراطية من بنيات مؤدلجة أعقبت الحرب العالمية الأولى التي أنتجت انهيار المركزية كثقافة، وانفراط عقد المفاهيم التقليدية عبر خطابات تبناها فلاسفة، وصولاً إلى آليات تستلهم مفهوم الحرية وتحوله إلى سلوك يوازي مايتم التنظير له، هذه الآليات تتصدى للأحزاب التقليدية اليسارية ذي النزعة الماركسية التي ولدت ثقافات شمولية.

كما أن النظرة الفوقية لليبراليين للخصوصيات عكست تناقضاً بين التنظير والسلوك، هذه التناقضات والإختلالات في الخطاب والسلوك الليبرالي، نعتقد أنه أدى إلى ازدهار التطرف المضاد وانتعاشه وكأنه رد فعل تجاه التطرف الليبرالي.

هذا التطرف الديني المتمثل بالجماعات السلفية تمدد بشكل سريع حتى صارت له ظلاله المخيفة في أكثر بلدان العالم، وأحد أسباب نشوء التطرف المضاد، إرتفاع نسبة البطالة في البلدان التي تشدقت بمفاهيم الحرية وحقوق الإنسان.

إن المعطيات الإقصائية للمنظومة العلمانية، وأزمة الخطاب الواضح لمنظومة الليبراليين، تستدعي الركون إلى واقعية عودة الدين ليأخذ مكانه الطبيعي في الفكر المعاصر والحداثي، من خلال تبيان الرؤية الدينية وموقفها من التجديد والمعاصرة، بعد مراجعة الأفكار الإصلاحية التي انطلقت من المفكرين الإصلاحيين الدينيين الذين اعتمدوا السؤال المهم الذي طُرح في قرون ماضية: لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ مع التركيز على عدم اختصار الإسلام للحداثة بنمط فكري يرى أن الدول التي حباها الله بالموارد هي دول متقدمة على صعيد العمران ــ مثلاً ــ ، بل نريد أن تكون حداثتنا منطلقة من العقل والأفكار التنويرية، وليس فقط من خلال المردودات الاقتصادية لهذه الموارد.

----------------------------
1: فهمي جدعان، في الخلاص النهائي، مقال في وعود الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين ص19

اضف تعليق