q

من معطيات الثورة الحسينية العظيمة أنها حطمت حاجز الخوف وأزالت حجب الخنوع من النفوس للحاكم الظالم والطغمة الأموية الفاسدة وأوجدت مساحة واسعة للدفاع عن الحقيقة والعدل والمطالبة بالحقوق المغتصبة والدعوة إلى الحرية والوقوف بوجه الظلم والاستبداد.

وقد حمل لواء هذه الثورة المعطاء ودعا إلى المبادئ العظيمة التي قام من أجلها الإمام الحسين (عليه السلام) في التصدّي للظالمين بعد استشهاده, الأئمة الطاهرون من ولده (عليهم السلام), وقام بأعباء الإمامة بعده ابنه الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام).

فقد عاش (عليه السلام) في فترة سياسية حالكة وأجواء ساد فيها الإرهاب والجور والاضطهاد, وعاصر أبشع السلطات الظالمة المستبدّة التي حكمها طغاة بني أمية فوقف كالطود الأشم أمام هذا التسلط وفضح الحكام الذين تزيّوا بزيّ الإسلام وقلوبهم تتميّز عليه وعلى نبيه حقداً وكراهية, فأدى ما أملى عليه واجبه كإمام للأمة من الهدى والصلاح والإصلاح ودافع عن الإسلام ومبادئه الحنيفة وجسد أروع الصور المضيئة في تاريخ المسلمين.

يقول الدكتور محمود إسماعيل المصري في كتابه (الحركات السرية في الإسلام) (ص67): (إن آل البيت كانوا يمثلون أقوى أحزاب المعارضة لسياسة الحاكمين من حيث تبنيهم لقضية العدالة بالمفهوم الإسلامي كما أكدها الإسلام وكانت من أبرز دعواته....) ويقول أيضاً في نفس الصفحة: (إن آل البيت كانوا أقدر المسلمين على فهم الإسلام وأكثرهم إخلاصاً لمبادئه, وأشدهم حرصاً على تطبيق تعاليمه، وقد ورثوا مأثرة التفقه في الدين والإحاطة بأصناف العلوم من إمامهم الأول علي بن بي طالب (عليه السلام)، ولا سبيل لإنكار باعهم الطويل في البحث والاطلاع على كافة فروع المعرفة والافادة منها في خدمة قضيتهم)

لقد حرص الإمام زين العابدين (عليه السلام) على ترسيخ مبادئ أبيه سيد الشهداء في النفوس بأبعادها الفكرية والروحية وليس فقط الثورية, فقد دأب على إحيائها رغم الإعلام المضلل الذي مارسته السياسة الأموية, فاستطاع أن يبث الأفكار الثورية والآراء المناهضة للسلطة في القلوب والعقول عبر نصائحه ومواعظه الكثيرة ومنها: (إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار).

يقول السيد المجدد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) في كتابه: (المعصومون الأربعة عشر) (ص265): (كان للإمام زين العابدين (عليه السلام) دور هام في المجتمع الإسلامي الذي أبتلي ببني أمية الذين لم يكن لهم هم سوى الملذات والشهوات الشيطانية دون أن يفكروا بهموم الرعية ويسعوا لحل مشاكلهم.

بالطبع لا يمكن حصر دور الإمام (عليه السلام) في بعد خاص، لأنه كان المرجع للمجتمع في جميع أموره....)

وريث النبوة

تسلم الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) مواريث الإمامة من أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) بعد أحداث كربلاء الدامية, حيث دخل عليه أبوه قبل استشهاده وأوصاه، وكانت آخر وصية أوصاه بها هي ما نصه: (يابني أوصيك بما أوصى به جدك رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) حين وفاته، وبما أوصى به جدك علي عمك الحسن (عليه السلام)، وبما أوصاني به عمك.. إيّاك وظلم من لايجد عليك ناصراً إلا الله).

هذه الوصايا التي كان يتناقلها الأنبياء ويعملون بها, كان يتناقلها ورثة خاتم النبيين وسيدهم ولم تمنعهم من حفظها وإدائها والعمل بها أقسى الظروف التي حلت بهم من أجل حفظ رسالة السماء في الأرض وجعلها متقدة وحية في الأجيال

لقد اقتضت الحكمة الإلهية أن يمرض الإمام زين العابدين في ذلك اليوم لكي يسقط عنه الجهاد ولولا مرضه في ذلك اليوم لما كان لشريعة المصطفى أن تُحفظ وتبقى ولأصبح الإسلام نسياً منسياً, لأنه (عليه السلام) لو لم يكن مريضاً فإنه حتماً سيقاتل ويقتل لا محالة، ورغم مرضه الشديد في ذلك اليوم إلا أنه لما سمع واعية أبيه واستغاثته نهض من فراشه بكل شجاعة وصلابة وهو يتوكأ على عصاه ويحمل سيفه لمواجهة الأعداء ونصرة أبيه سيد الشهداء فجاء النداء من أبيه لعمته العقيلة زينب بن أمير المؤمنين (عليهما السلام) وهو يدعوها إلى حفظ وريث الأنبياء والأمين على شرعة السماء بقوله: (إحبسيه لئلا تخلو الأرض من نسل آل محمد)

لقد سلم الإمام الحسين مواريث النبوة ووصايا الإمامة إلى ابنه علي السجاد ثم ودعه ومضى إلى المعركة التي استشهد فيها فشاهد زين العابدين مصرع ابيه وعمومته وأخوته وبني عمومته وسبي عماته وأخواته من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام وهو مقيد بالحديد ورؤوس الأهل والأصحاب على الرماح يتقدمهم رأس أبيه.

صوت الحسين لن يموت

لقد قتل الحسين ولكن صوته لم ولن يموت.., لقد قطع رأسه لكن هذا الرأس المقطوع روّى شريعة الإسلام التي ستبقى مشعة ومضيئة بتضحياته ودمه.., لقد سلب ثوبه وردائه لكنه كسا الدنيا ثوب الحرية والكرامة.., لقد دِيس على صدره بحوافر الخيول لكنه زرع في الصدور معنى الإباء ورفض الظلم والتجبر والاستبداد.

لقد حمل الإمام زين العابدين المعاني السامية والمبادئ العظيمة التي سعى أبوه إلى تحقيقها وحرص كل الحرص على ترسيخها في ضمير الأمة ودافع عنها من تحريف السلطة الأموية ومرتزقتها الذين حاولوا تشويه الحقائق وتزييف هذه المبادئ بإشاعاتهم وأكاذيبهم بنسبة قائد الثورة وشهدائها الأبرار إلى (الخوارج)!!!

فانطلق صوت زين العابدين ليدحض هذه الأكاذيب ويؤكد للرأي العام على أن هذه الثورة هي تجسيد للإسلام المحمدي وامتداد لمنهج النبي (صلى الله عليه وآله) في كل المراحل التي مر بها في رحلة الأسر وأول صوت له (عليه السلام) كان في الكوفة من خلال خطبته العظيمة التي بين فيها الجريمة النكراء التي ارتكبها الأمويون بقتلهم سبط رسول الله وغدر أهل الكوفة به وفيها من التقريع لهم ما أجج في النفوس مشاعر السخط والغضب على يزيد حيث قال (عليه السلام):

(أَيُّهَا النَّاسُ! مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. أَنَا ابْنُ الْمَذْبُوحِ بِشَطِّ الْفُرَاتِ مِنْ غَيْرِ ذَحْلٍ وَلا تِرَاتٍ. أَنَا ابْنُ مَنِ انْتُهِكَ حَرِيمُهُ، وَسُلِبَ نَعِيمُهُ، وَانْتُهِبَ مَالُهُ، وَسُبِيَ عِيَالُهُ. أَنَا ابْنُ مَنْ قُتِلَ صَبْراً وَكَفَى بِذَلِكَ فَخْراً. أَيُّهَا النَّاسُ! نَاشَدْتُكُمْ بِاللَّهِ! هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ كَتَبْتُمْ إِلَى أَبِي وَخَدَعْتُمُوهُ؟ وَأَعْطَيْتُمُوهُ مِنْ أَنْفُسِكُمْ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ وَالْبَيْعَةَ، وَقَاتَلْتُمُوهُ وَخَذَلْتُمُوهُ؟ فَتَبّاً لِمَا قَدَّمْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ، وَسَوْأَةً لِرَأْيِكُمْ. بِأَيَّةِ عَيْنٍ تَنْظُرُونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صلی الله عليه وآله) إِذْ يَقُولُ لَكُمْ: قَتَلْتُمْ عِتْرَتِي، وَانْتَهَكْتُمْ حُرْمَتِي، فَلَسْتُمْ مِنْ أُمَّتِي)؟!

كان لهذه الكلمات دوي وضجيج واستفاقة ووجوم وغضب وسخط على السلطة وتأنيب للضمير وتقريع للنفس (فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُ النَّاسِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَلَكْتُمْ وَمَا تَعْلَمُونَ)!

ورغم الحالة المأساوية التي كان عليها فقد استأنف حديثه ووعظه لهم فقال: رَحِمَ اللهُ امْرَأً قَبِلَ نَصِيحَتِي، وَحَفِظَ وَصِيَّتِي فِي اللَّهِ وَفِي رَسُولِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، فَإِنَّ لَنَا فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةً حَسَنَةً.

فَقَالُوا بِأَجْمَعِهِمْ: نَحْنُ كُلُّنَا ـ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهُ ـ سَامِعُونَ مُطِيعُونَ حَافِظُونَ لِذِمَامِكَ غَيْرَ زَاهِدِينَ فِيكَ وَلا رَاغِبِينَ عَنْكَ، فَمُرْنَا بِأَمْرِكَ ـ يَرْحَمُكَ اللهُ ـ فَإِنَّا حَرْبٌ لِحَرْبِكَ، وَسِلْمٌ لِسِلْمِكَ، لَنَأْخُذَنَّ يَزِيدَ! وَنَبْرَأُ مِمَّنْ ظَلَمَكَ وَظَلَمَنَا!

فَقَالَ(عليه السلام): هَيْهَاتَ! هَيْهَاتَ! أَيُّهَا الْغَدَرَةُ الْمَكَرَةُ، حِيلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ شَهَوَاتِ أَنْفُسِكُمْ! أَتُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ كَمَا أَتَيْتُمْ إِلَى آبَائِي مِنْ قَبْلُ؟! كَلا وَرَبِّ الرَّاقِصَاتِ، فَإِنَّ الْجُرْحَ لَمَّا يَنْدَمِلُ، قُتِلَ أَبِي ـ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ـ بِالأَمْسِ، وَأَهْلُ بَيْتِهِ مَعَهُ، وَلَمْ يُنْسِنِي ثُكْلَ رَسُولِ اللهِ وَثُكْلَ أَبِي وَبَنِي أَبِي، وَوَجْدُهُ بَيْنَ لَهَاتِي، وَمَرَارَتُهُ بَيْنَ حَنَاجِرِي وَحَلْقِي، وَغُصَصُهُ يَجْرِي فِي فِرَاشِ صَدْرِي، وَمَسْأَلَتِي أَنْ لا تَكُونُوا لَنَا وَلا عَلَيْنَا).

استهانة بالموت أمام الطاغية

ووقف بتلك الشجاعة والصلابة أمام الطاغية عبيد الله بن زياد وهو أسير وينظر إلى الطاغية عبيد الله بن زياد وهو ينكث بالقضيب ثنايا ابيه تشفياً وانتقاماً فلم يمنعه شدة الحزن على التصدّي له والوقوف بوجهه وقد تعرض (عليه السلام) للقتل يديه ولكن ارادة الله حالت دون ما يريد المجرم ابن زياد، فقد دار حوار بينهما انتهى بأن أمر ابن زياد بأن يضرب عنق الإمام فتعلقت الحوراء زينب بابن أخيها وقالت لابن زياد: (إنك لم تبق منا أحداً فإن كنت عزمت على قتله فاقتلني معه), لكن الإمام السجاد لم يأبه بأمر ابن زياد ولم يخشه في مجلسه بل وجه إليه كلاماً عرّفه بنفسه الشريفة التي لا تخشى الموت بل تستهين به فقال له بكل ثبات وجرأة ويقين: (أبالقتل تهددني!!! أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة).

في الشام

يا أمة السوءِ لاسقياً لربعكمُ *** يا أمة لم تراعِ جدّنا فينا

لو أننا ورسول الله يجمعنا *** يوم القيامةِ ما كنتم تقولونا

تسيّرونا على الأقتابِ عاريةً *** كأننا لم نشيّد فيكمُ دينا

أليسَ جدي رسول الله ويلكُم *** أهدى البرية من سبل المضلينا

بهذه الأبيات خاطب الإمام قاتلي أبيه ومن خذله وهو يوجه بها رسالة شديدة اللهجة واستنكار للجريمة الفظيعة التي ارتكبوها, كما لم يمنعه أسره وطول الرحلة الشاقة وهو مثقل بالحديد من أن يقف في مجلس يزيد ويصدع بالحق ويفضح الظالمين بتلك الخطبة المدوية التي زلزلت عروش الأمويين وبقيت اصداؤها تجوب في البلاد وأحدثت انقلاباً فكرياً في أذهان الناس ضد يزيد, وقد استنكر جريمته البشعة حتى رواد مجلسه وأتباعه فعندما جيء بالإمام أسيراً ومعه سبايا آل محمد أَمَرَ يزيد (بِمِنْبَرٍ وَخَطِيبٍ) ليذكر أمير المؤمنين والحسين بالسوء ويسبهما لكن الخطيب الكافر المنافق أراد أن يحظى بمكانة أكبر عند يزيد بتزلفه ونفاقه (فأَكْثَرَ الْوَقِيعَةَ فِي عَلِيٍّ وَالْحُسَيْنِ (عليهما السلام)، وَأَطْنَبَ فِي تَقْرِيظِ مُعَاوِيَةَ وَيَزِيدَ ـ لَعَنَهُمَا اللَّهُ ـ فَذَكَرَهُمَا بِكُلِّ جَمِيلٍ)!!!

وفجأة دوى صوت في المجلس أخرس الخطيب وجعل كل من في المجلس كأن على رؤوسهم الطير..! ارتفع الصوت في مجلس يزيد بهذه الكلمات: (وَيْلَكَ ـ أَيُّهَا الْخَاطِبُ ـ اشْتَرَيْتَ مَرْضَاةَ الْمَخْلُوقِ بِسَخَطِ الْخَالِقِ، فَتَبَّوأْ مَقْعَدَكَ مِنَ النَّارِ)!!! .كان صوت الحق والحقيقة الصوت الذي انبثق من صوت السماء ودعوة النبوة إنه صوت علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام).

ثم أراد (عليه السلام) أن يصحح المسار ويشير ببوصلة الهدى إلى الحقيقة التي أخفاها الأمويون عن الناس وزيفوها... أراد أن يكشف القناع الزائف الذي لبسه الأمويون باسم الإسلام ويظهر وجوههم القبيحة وأفعالهم وجرائمهم فقَالَ (عليه السلام) ليزيد: (يَا يَزِيدُ! ائْذَنْ لِي حَتَّى أَصْعَدَ هَذِهِ الأَعْوَادَ، فَأَتَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ للهِ فِيهِنَّ رِضاً، وَلِهَؤُلاءِ الْجُلَسَاءِ فِيهِنَّ أَجْرٌ وَثَوَابٌ). لكن ابن آكلة الأكباد يعرف قبل غيره من هو هذا المتحدث ومن أين استقى علمه وبلاغته فهو المجسد لبلاغة جده سيد البلغاء والمتكلمين: (فَأَبَى يَزِيدُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. فَقَالَ النَّاسُ: ائْذَنْ لَهُ، فَلْيَصْعَدِ الْمِنْبَرَ، فَلَعَلَّنَا نَسْمَعُ مِنْهُ شَيْئاً. فَقَالَ: إِنَّهُ إِنْ صَعِدَ لَمْ يَنْزِلْ إِلا بِفَضِيحَتِي وَبِفَضِيحَةِ آلِ أَبِي سُفْيَانَ! فَقِيلَ لَهُ: وَمَا قَدْرُ مَا يُحْسِنُ هَذَا؟! فَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ قَدْ زُقُّوا الْعِلْمَ زَقّاً. (فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَذِنَ لَهُ).

شمس الحقيقة تسطع وسط الظلام

هاهو لسان الثورة الحسينية الهادر, ووريث النبوة. وسليل الإمامة, وضمير الإسلام الحي يخطب في مجلس عدو الإسلام وعدو نبيه, فأحال سرور يزيد بقتل الحسين إلى حالة من الهلع والخوف وأطار فعل الخمر من رأسه, وأحدث انقلاباً في الرأي العام ضده حتى اضطر يزيد إلى التنصل من جريمته وإلقاء تبعتها كلها على المجرم ابن زياد.

صَعِدَ (عليه السلام) الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْه ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ! أُعْطِينَا سِتّاً وَفُضِّلْنَا بِسَبْعٍ: أُعْطِينَا الْعِلْمَ، وَالْحِلْمَ، وَالسَّمَاحَةَ، وَالْفَصَاحَةَ، وَالشَّجَاعَةَ، وَالْمَحَبَّةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَفُضِّلْنَا: بِأَنَّ مِنَّا النَّبِيَّ الْمُخْتَارَ مُحَمَّداً (صلی الله عليه وآله)، وَمِنَّا الصِّدِّيقُ، وَمِنَّا الطَّيَّارُ، وَمِنَّا أَسَدُ اللهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ، وَمِنَّا سِبْطَا هَذِهِ الأُمَّةِ.

أيها الناس:

مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي أَنْبَأْتُهُ بِحَسَبِي وَنَسَبِي: أَنَا ابْنُ مَكَّةَ وَمِنَى. أَنَا ابْنُ زَمْزَمَ وَالصَّفَا. أَنَا ابْنُ مَنْ حَمَلَ الرُّكْنَ بِأَطْرَافِ الرِّدَا. أَنَا ابْنُ خَيْرِ مَنِ ائْتَزَرَ وَارْتَدَى. أَنَا ابْنُ خَيْرِ مَنِ انْتَعَلَ وَاحْتَفَى. أَنَا ابْنُ خَيْرِ مَنْ طَافَ وَسَعَى. أَنَا ابْنُ خَيْرِ مَنْ حَجَّ وَلَبَّى. أَنَا ابْنُ مَنْ حُمِلَ عَلَى الْبُرَاقِ فِي الْهَوَاءِ. أَنَا ابْنُ مَنْ أُسْرِيَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى.أَنَا ابْنُ مَنْ بَلَغَ بِهِ جَبْرَئِيلُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. أَنَا ابْنُ مَنْ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى‏. أَنَا ابْنُ مَنْ صَلَّى بِمَلائِكَةِ السَّمَاءِ. أَنَا ابْنُ مَنْ أَوْحَى إِلَيْهِ الْجَلِيلُ مَا أَوْحَى. أَنَا ابْنُ مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى. أَنَا ابْنُ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى. أَنَا ابْنُ مَنْ ضَرَبَ خَرَاطِيمَ الْخَلْقِ حَتَّى قَالُوا: لا إِلَهَ إِلا اللهُ. أَنَا ابْنُ مَنْ ضَرَبَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ بِسَيْفَيْنِ، وَطَعَنَ بِرُمْحَيْنِ، وَهَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ، وَبَايَعَ الْبَيْعَتَيْنِ، وَقَاتَلَ بِبَدْرٍ وَحُنَيْنٍ، وَلَمْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ. أَنَا ابْنُ صَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَارِثِ النَّبِيِّينَ، وَقَامِعِ الْمُلْحِدِينَ، وَيَعْسُوبِ الْمُسْلِمِينَ، وَنُورِ الْمُجَاهِدِينَ، وَزَيْنِ الْعَابِدِينَ، وَتَاجِ الْبَكَّائِينَ، وَأَصْبَرِ الصَّابِرِينَ، وَأَفْضَلِ الْقَائِمِينَ مِنْ آلِ يَاسِينَ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَنَا ابْنُ الْمُؤَيَّدِ بِجَبْرَئِيلَ، الْمَنْصُورِ بِمِيكَائِيلَ. أَنَا ابْنُ الْمُحَامِي عَنْ حَرَمِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَاتِلِ الْمَارِقِينَ وَالنَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ، وَالْمُجَاهِدِ أَعْدَاءَهُ النَّاصِبِينَ. وَأَفْخَرِ مَنْ مَشَى مِنْ قُرَيْشٍ أَجْمَعِينَ، وَأَوَّلِ مَنْ أَجَابَ وَاسْتَجَابَ للهِ وَلِرَسُولِهِ مِنَ‏ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَوَّلِ السَّابِقِينَ. وَقَاصِمِ الْمُعْتَدِينَ، وَمُبِيدِ الْمُشْرِكِينَ، وَسَهْمٍ مِنْ مَرَامِي اللهِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ. وَلِسَانِ حِكْمَةِ الْعَابِدِينَ، وَنَاصِرِ دِينِ اللهِ، وَوَلِيِّ أَمْرِ اللهِ، وَبُسْتَانِ حِكْمَةِ اللهِ، وَعَيْبَةِ عِلْمِهِ. سَمِحٌ سَخِيٌّ، بَهِيٌّ بُهْلُولٌ زَكِيٌّ، أَبْطَحِيٌّ رَضِيٌّ، مِقْدَامٌ هُمَامٌ، صَابِرٌ صَوَّامٌ، مُهَذَّبٌ قَوَّامٌ. قَاطِعُ الأَصْلابِ، وَمُفَرِّقُ الأَحْزَابِ، أَرْبَطُهُمْ عِنَاناً، وَأَثْبَتُهُمْ جَنَاناً، وَأَمْضَاهُمْ عَزِيمَةً، وَأَشَدُّهُمْ شَكِيمَةً. أَسَدٌ بَاسِلٌ، يَطْحَنُهُمْ فِي الْحُرُوبِ ـ إِذَا ازْدَلَفَتِ الأَسِنَّةُ، وَقَرُبَتِ الأَعِنَّةُ ـ طَحْنَ الرَّحَى، وَيَذْرُوهُمْ فِيهَا ذَرْوَ الرِّيحِ الْهَشِيمِ. لَيْثُ الْحِجَازِ، وَكَبْشُ الْعِرَاقِ، مَكِّيٌّ مَدَنِيٌّ، خَيْفِيٌّ عَقَبِيٌّ، بَدْرِيٌّ أُحُدِيٌّ، شَجَرِيٌّ مُهَاجِرِيٌّ، مِنَ الْعَرَبِ سَيِّدُهَا، وَمِنَ الْوَغَى لَيْثُهَا. وَارِثُ الْمَشْعَرَيْنِ، وَأَبُو السِّبْطَيْنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، ذَاكَ جَدِّي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ... أَنَا ابْنُ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ، أَنَا ابْنُ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ. أَنَا ابْنُ خَدِيجَةَ الْكُبْرَى. أَنَا ابْنُ الْمَقْتُولِ ظُلْما. أَنَا ابْنُ الْمَجْزُوزِ الرَّأْسِ مِنَ الْقَفَا. أَنَا ابْنُ الْعَطْشَانِ حَتَّى قَضَى. أَنَا ابْنُ طَرِيحِ كَرْبَلا. أَنَا ابْنُ مَسْلُوبِ الْعِمَامَةِ وَالرِّدَا. أَنَا ابْنُ مَنْ بَكَتْ عَلَيْهِ مَلائِكَةُ السَّمَا. أَنَا ابْنُ مَنْ نَاحَتْ عَلَيْهِ الْجِنُّ فِي الأَرْضِ وَالطَّيْرُ فِي الْهَوَا. أَنَا ابْنُ مَنْ رَأْسُهُ عَلَى السِّنَانِ يُهْدَى. أَنَا ابْنُ مَنْ حَرَمُهُ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ تُسْبَى‏...

فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ: أَنَا.. أَنَا.. حَتَّى ضَجَّ النَّاسُ بِالْبُكَاءِ وَالنَّحِيبِ، وَخَشِيَ يَزِيدُ ـ لَعَنَهُ اللهُ ـ أَنْ يَكُونَ فِتْنَةٌ، فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ، فَقَطَعَ عَلَيْهِ الْكَلامَ.

فَلَمَّا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ.

قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): لا شَيْ‏ءَ أَكْبَرُ مِنَ اللهِ.

فَلَمَّا قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ.

قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام): شَهِدَ بِهَا شَعْرِي وَبَشَرِي وَلَحْمِي وَدَمِي.

فَلَمَّا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ.

هنا الْتَفَتَ (عليه السلام) مِنْ فَوْقِ الْمِنْبَرِ إِلَى يَزِيدَ، وقَالَ: مُحَمَّدٌ هَذَا جَدِّي أَمْ جَدُّكَ يَا يَزِيدُ ؟ فَإِنْ زَعَمْتَ أَنَّهُ جَدُّكَ، فَقَدْ كَذَبْتَ وَكَفَرْتَ، وَإِنْ زَعَمْتَ أَنَّهُ جَدِّي، فَلِمَ قَتَلْتَ أَبِي وَسَبَيْتَ حَرَمَهُ وَسَبَيْتَنِي؟ ثُمَّ قَالَ: مَعَاشِرَ النَّاسِ! هَلْ فِيكُمْ مَنْ أَبُوهُ وَجَدُّهُ رَسُولُ اللهِ(صلی الله عليه وآله)؟ فَعَلَتِ الأَصْوَاتُ بِالْبُكَاءِ.....

هكذا جرّد الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) السلطة الأموية الجائرة من الصبغة الشرعية التي أوهموا وخدعوا بها الناس, وفضح جريمتهم النكراء بحق آل الرسول في كربلاء, وأوضح وبيّن أعمالهم الوحشية بقتل الحسين وأهل بيته وأصحابه وهم ظِماء, وأسرهم وسبيهم بنات الرسول والطواف بهن من بلد إلى بلد.

المدينة .. توقد الدمع

بعد رحلة شاقة مليئة بالمشاق والدموع وصلت قافلة الحزن إلى مشارف المدينة.., مدينة الرسول (صلی الله عليه وآله) ـ نَزَلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، فَحَطَّ رَحْلَهُ، وَضَرَبَ فُسْطَاطَهُ، وَأَنْزَلَ نِسَاءَهُ، وَقَالَ لبشر بن حذلم : يَا بَشِرُ! رَحِمَ اللَّهُ أَبَاكَ، لَقَدْ كَانَ شَاعِراً، فَهَلْ تَقْدِرُ عَلَى شَيْ‏ءٍ مِنْهُ؟ فقال بشر: بَلَى ـ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ ـ إِنِّي لَشَاعِرٌ. قَالَ: فَادْخُلِ الْمَدِينَةَ وَانْعَ أَبَا عَبْدِ اللهِ. فَرَكِب بشر فَرَسِه حَتَّى دَخَل الْمَدِينَةَ. فَلَمَّا بَلَغ مَسْجِدَ النَّبِيِّ (صلی الله عليه وآله) رَفَع صَوْتِه بِالْبُكَاءِ، وَأَنْشَأْ يقُولُ:

يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ بِهَا *** قُتِلَ الْحُسَيْنُ فَأَدْمُعِي مِدْرَارُ

الْجِسْمُ مِنْهُ بِكَرْبَلاءَ مُضَرَّجٌ *** وَالرَّأْسُ مِنْهُ عَلَى الْقَنَاةِ يُدَارُ

ثُمَّ قُالْ: هَذَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ مَعَ عَمَّاتِهِ وَأَخَوَاتِهِ، قَدْ حَلُّوا بِسَاحَتِكُمْ، وَنَزَلُوا بِفِنَائِكُمْ، وَأَنَا رَسُولُهُ إِلَيْكُمْ، أُعَرِّفُكُمْ مَكَانَهُ. فَمَا بَقِيَتْ فِي الْمَدِينَةِ مُخَدَّرَةٌ وَلا مُحَجَّبَةٌ إِلا بَرَزْنَ مِنْ خُدُورِهِنَّ، مَكْشُوفَةً شُعُورُهُنَّ، مُخَمَّشَةً وُجُوهُهُنَّ، ضَارِبَاتٍ خُدُودَهُنَّ، يَدْعُونَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ. فَلَمْ يُرَ بَاكِياً أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلا يَوْماً أَمَرَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ، ولما سمع الناس نعي الحسين توجهوا إلى زين العابدين (عليه السلام) لمواساته وَكَانَ (عليه السلام) دَاخِلاً، وَبيده خِرْقَةٌ يَمْسَحُ بِهَا دُمُوعَهُ، وَخَلْفَهُ خَادِمٌ مَعَهُ كُرْسِيٌّ، فَوَضَعَهُ لَهُ، وَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَهُوَ لا يَتَمَالَكُ مِنَ الْعَبْرَةِ، وَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُ النَّاسِ بِالْبُكَاءِ، وَحَنِينِ الْجَوَارِي وَالنِّسَاءِ، وَالنَّاسُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ يُعَزُّونَهُ، فَضَجَّتْ تِلْكَ الْبُقْعَةُ ضَجَّةً شَدِيدَةً. فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ أَنِ اسْكُتُوا، فَسَكَنَتْ فَوْرَتُهُمْ، فَقَالَ (عليه السلام):

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، بَارِئِ الْخَلائِقِ أَجْمَعِينَ، الَّذِي بَعُدَ فَارْتَفَعَ فِي السَّمَاوَاتِ الْعُلَى، وَقَرُبَ فَشَهِدَ النَّجْوَى نَحْمَدُهُ عَلَى عَظَائِمِ الأُمُورِ، وَفَجَائِعِ الدُّهُورِ، وَأَلَمِ الْفَجَائِعِ، وَمَضَاضَةِ اللَّوَاذِعِ، وَجَلِيلِ الرُّزْءِ، وَعَظِيمِ الْمَصَائِبِ الْفَاضِعَة الْكَاظَّةِ الْفَادِحَةِ الْجَائِحَةِ.

أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللهَ ـ وَلَهُ الْحَمْدُ ـ ابْتَلانَا بِمَصَائِبَ جَلِيلَةٍ، وَثُلْمَةٍ فِي الإِسْلامِ عَظِيمَةٍ، قُتِلَ أَبُو عَبْدِ اللهِ وَعِتْرَتُهُ، وَسُبِيَ نِسَاؤُهُ وَصِبْيَتُهُ، وَدَارُوا بِرَأْسِهِ فِي الْبُلْدَانِ مِنْ فَوْقِ عَامِلِ السِّنَانِ، وَهَذِهِ الرَّزِيَّةُ الَّتِي لا مِثْلَهَا رَزِيَّةٌ.

أَيُّهَا النَّاسُ! فَأَيُّ رِجَالاتٍ مِنْكُمْ يُسَرُّونَ بَعْدَ قَتْلِهِ؟ أَمْ أَيَّةُ عَيْنٍ مِنْكُمْ تَحْبِسُ دَمْعَهَا؟ وَتَضَنُّ عَنِ انْهِمَالِهَا؟

فَلَقَدْ بَكَتِ السَّبْعُ الشِّدَادُ لِقَتْلِهِ، وَبَكَتِ الْبِحَارُ بِأَمْوَاجِهَا، وَالسَّمَاوَاتُ بِأَرْكَانِهَا، وَالأَرْضُ بِأَرْجَائِهَا، وَالأَشْجَارُ بِأَغْصَانِهَا، وَالْحِيتَانُ، وَلُجَجُ الْبِحَارِ، وَالْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ، وَأَهْلُ السَّمَاوَاتِ أَجْمَعُونَ.

أَيُّهَا النَّاسُ! أَيُّ قَلْبٍ لا يَنْصَدِعُ لِقَتْلِهِ؟ أَمْ أَيُّ فُؤَادٍ لا يَحِنُّ إِلَيْهِ؟ أَمْ أَيُّ سَمْعٍ يَسْمَعُ هَذِهِ الثُّلْمَةَ الَّتِي ثُلِمَتْ فِي الْإِسْلامِ؟

أَيُّهَا النَّاسُ! أَصْبَحْنَا مَطْرُودِينَ مُشَرَّدِينَ مَذُودِينَ شَاسِعِينَ عَنِ الأَمْصَارِ، كَأَنَّا أَوْلادُ تُرْكٍ وَكَابُلَ، مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ اجْتَرَمْنَاهُ، وَلا مَكْرُوهٍ ارْتَكَبْنَاهُ، وَلا ثُلْمَةٍ فِي الإِسْلامِ ثَلَمْنَاهَا، ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الأَوَّلِينَ إِنْ هذا إِلا اخْتِلاقٌ‏.

وَاللَّهِ! لَوْ أَنَّ النَّبِيَّ تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ فِي قِتَالِنَا كَمَا تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ فِي الْوَصَاءَةِ بِنَا لَمَا ازْدَادُوا عَلَى مَا فَعَلُوا بِنَا.

فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ مِنْ مُصِيبَةٍ مَا أَعْظَمَهَا! وَأَوْجَعَهَا! وَأَفْجَعَهَا! وَأَكَظَّهَا! وَأَفَظَّهَا! وَأَمَرَّهَا! وَأَفْدَحَهَا! فَعِنْدَ اللَّهِ نَحْتَسِبُ فِيمَا أَصَابَنَا، وَمَا بَلَغَ بِنَا، إِنَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ.

واقعة الحرة

واضافة الى هذه المآسي التي شاهدها الإمام (عليه السلام) في كربلاء والكوفة والشام فقد شاهد كثيراً من الأحداث المأساوية التي جرت بعدها على يد السلطة الأموية الطاغية فعاش (عليه السلام) ظروفاً صعبة للغاية وهو يرى أمام عينيه الجور والظلم والانحراف والفساد وهو يستشري ويطغى في المجتمع فحمل هموم الأمة والرسالة بأكملها وراح يصدع بتعاليم الدين الحنيف مدافعاً عنه بكل ما أوتي من قوة ويبث بين الناس من روحه الكبيرة ما حملته من أخلاق وعلم وصفات نبوية.

لقد غمرت الدنيا حياة الإمام زين العابدين (عليه السلام) بالأحزان والمآسي والمصائب فغمرها بالصبر والعطاء والبذل والخير وجابهته بظلمها وظلامها فشع عليها بعلمه ونوره النبوي وواجهته بزعازعها فوجدته جبلاً شامخاً راسخاً لاتزعزعه الأعاصير ولاتثنه الاهوال.

ومن الحوادث المأساوية التي شاهدها (عليه السلام) هي واقعة الحرة وماجرى على مدينة جده (صلى الله عليه وآله) من قتل ونهب وسلب وانتهاك للحرمات من قبل الجيش الأموي, فعندما رأى أهل المدينة استهتار يزيد بالدين والأخلاق وجميع القيم والمقدسات وظلمه وجوره وفجوره وعبثه وشربه الخمر جهراً، والأدهى من ذلك قتله ريحانة رسول الله وسيد شباب أهل الجنة أعلنوا نقضهم لبيعته وولوا عليهم عبد الله بن حنظلة وعبد الله بن مطيع العدوي وطردوا عامل يزيد على المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان وحصروا بني أمية في دار مروان فأرسل إليهم يزيد المجرم مسلم بن عقبة المري فجرت معركة ضارية كانت الغلبة فيها لجيش الشام وقتل عبد الله بن حنظلة ومعه أولاده الثمانية ثم دخل مسلم بن عقبة بجيشه إلى المدينة المنورة فارتكبوا فيها من الجرائم مايندى له جبين الإنسانية.

وقد قضت هذه الواقعة على البقية القليلة من آل أبي طالب وبني هاشم في المدينة فنكأت جراح الإمام (عليه السلام) من جديد وهي لم تندمل وتجددت أحزانه, والجدير بالذكر إن هذه الواقعة جرت سنة (62هـ), أي بعد سنة واحدة من واقعة الطف, يقول المسعودي في مروج الذهب (قتل في تلك المعركة خلق كثير من الناس من بني هاشم وقريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس فممن قتل من آل أبي طالب عبد الله بن جعفر بن أبي طالب, وجعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب, ومن بني هاشم من غير آل أبي طالب نوفل بن الحرث بن عبد المطلب, والعباس بن عتبة بن أبي لهب وأكثر من تسعين رجلاً من قريش ومثلهم من الأنصار وأربعة الآف من سائر الناس ممن أدركهم الإحصاء دون من لم يعرف).

وقال ابن قتيبة (إن عدد من قتل من أبناء المهاجرين والأنصار والوجوه بلغ الفاً وسبعمائة ومن سائر الناس عشرة الآف سوى النساء والأطفال), ثم ينقل ابن قتيبة إحدى الصور عن تلك الجرائم الوحشية التي قام بها الجيش الاموي في مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيقول: (دخل رجل من جند مسلم بن عقبة على امرأة نفساء من الأنصار ومعها صبي لها فقال: هل من مال؟ فقالت: لا. والله ماتركوا لنا شيئاً فقال والله لتخرجن إلي شيئاً أو لأقتلنك وصبيك هذا, فقالت له: ويحك إنه ولد ابن أبي كبشة الأنصاري صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخذ برجل الصبي والثدي في فمه فجذبه من حجرها وضرب به الحائط فانتثر دماغه على الأرض)!!!

وللقارئ أن يتخيل هذا المشهد الذي لم يحدث حتى في عصر الجاهلية بل وحتى في العصور البدائية وعند أكثر الأقوام وحشية ..

وقد أباح (مجرم) بن عقبة المدينة ثلاثة أيام ولم يبق بعد هذه الواقعة بدري، ثم أمروا الناس بالبيعة ليزيد على أنهم عبيد له إن شاء استرق وإن شاء أعتق فبايعوه على ذلك وأموالهم مسلوبة ورحالهم منهوبة ودماؤهم مسفوكة ونساؤهم مهتوكة وبعث (مجرم بن عقبة) برؤوس أهل المدينة إلى يزيد وقد ذكر جميع المؤرخين هذه الواقعة.

(موقف الإمام من الواقعة)

كل هذه الأحداث الفضيعة التي شاهدها الإمام زين العابدين (عليه السلام) كانت تزيد من جراحه وكان يتلقاها بقلب كسير وروح متألمة فيزداد حزناً وألماً, كان كبيراً في نفسه ورحيماً حتى بمن نصب له ولأبيه ولجده العداء، فعندما خرج مروان بن الحكم وبني أمية إلى الشام تركوا عيالهم في المدينة فكلم مروان عبد الله بن عمر بأن يترك عياله وحرمه عنده فأبى عليه، فكلم الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) فوافق على ذلك!!

أي روح أعظم من هذه الروح..؟ وأي قلب أكبر من هذا القلب..؟ هذه هي أخلاق الأنبياء التي ورثها الإمام زين العابدين (عليه السلام) من آبائه, لقد كفل عوائل بني أمية الذين سبوا عماته وأخواته ونساءه من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام وبقيت عائلة مروان في رعايته إلى أن انتهت المعركة وسلم علي بن الحسين (عليه السلام) وأهل بيته من شر مسلم بن عقبة وسلم كل من التجأ إلى بيته من أهل المدينة.

وبلغ الذين انضموا إلى علي بن الحسين ما يزيد على أربعمائة عائلة, وجاء في ربيع الأبرار للزمخشري: إنه لما أرسل يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة لقتال أهل المدينة واستباحتها كفل الإمام زين العابدين أربعمائة امرأة مع أولادهن وحشمهن وضمّهن إلى عياله وقام بنفقتهن وإطعامهن إلى أن خرج جيش ابن عقبة من المدينة, حتى قالت امرأة أموية: (ما لقينا في بيوتنا مثل ما لقينا في بيت هذا الشريف).

قال الطبري (إن يزيد أوصى مسلم بن عقبة بعلي بن الحسين).., ولعل البعض يتصوره تصرفاً معبراً عن نفسية يزيد ولكن في الحقيقة لم يكن يزيد بذلك البعيد عن دماء أهل البيت (عليه السلام) أو مراعياً لهم حرمة النبي حتى يوصي بالإمام زين العابدين, بل لأنه أحس بوطأة جريمته النكراء التي ارتكبها في كربلاء بحق الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه وأدرك أن الأخطار قد أصبحت تهدد عرشه من جميع الجهات والأصوات التي تنادي يالثارات الحسين تتعالى في جميع الأرجاء وتجد ترحيباً وتجاوباً من الجميع وفيما كان يزيد بن معاوية يتعقب الثائرين في المدينة كان التوابون في الكوفة منذ أن قتل الحسين يعدون العدة للثورة على السلطة الأموية وقد بدأوا يحسون بمرارة تلك الفاجعة حينما وقف الإمام زين العابدين وخطب في جموعهم تلك الخطب البليغة.

التوابون

وفي سنة (65هـ) خرج التوابون من الكوفة فأرسل إليهم مروان بن الحكم الذي استولى على السلطة جيشاً من الشام بقيادة عبيد الله بن زياد فالتقى الجيشان في (عين الوردة) وبقي الثوار يقاتلون أياماً حتى أبيدوا عن آخرهم لتفوق الجيش الأموي في العدة والعدد, وبعد سنة من تلك الحادثة قام المختار بن عبيدة الثقفي في الكوفة ودعا الناس للطلب بثأر الحسين وتتبع قتلة الحسين حتى قضى على عبيد الله بن زياد في معركة الخازر وأرسل إليه قائد جيشه إبراهيم بن مالك الأشتر رأس ابن زياد, فأرسل به مع رأس عمر بن سعد إلى الإمام زين العابدين (عليه السلام) وروى الكشي في كتابه أخبار الرجال (لما أرسل المختار رأس عبيد الله بن زياد ورأس عمر بن سعد الى علي بن الحسين خرّ ساجدا وقال.. الحمد لله الذي أدرك لي ثاري من أعدائي وجزى الله المختار خيرا).

كما جرت أحداث أخرى في حياته (عليه السلام) تجرع فيها الكثير من الغصص من حكام بني أمية وظلمهم ولكن تبقى واقعة كربلاء الجرح الذي لم يندمل عند الإمام زين العابدين ولم يزل باكياً حتى قال له بعض مواليه.. إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين, فقال (عليه السلام): إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله مالاتعلمون.. إن يعقوب كان نبياً فغيّب الله عنه واحداً من أولاده وعنده اثنا عشر ولداً وهو يعلم إنه حي فبكى عليه حتى ابيضت عيناه من الحزن, وإني نظرت إلى أبي وأخوتي وعمومتي وصحبي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني؟.. وإني لا أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني العبرة وإذا نظرت إلى عماتي وأخواتي ذكرت فرارهن من خيمة إلى خيمة...

وبقيت ذكرى كربلاء معه طوال حياته الشريفة لا تفارقه صورها حتى توفي (عليه السلام) مسموما على يد الوليد بن عبد الملك سنة (95هـ).

اضف تعليق