q
رافائيل هاداس ليبيل

 

باريس ــ كانت الشفافية موضوعا رئيسيا في الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2017. وحتى قبل أن تفيد التقارير أن فرانسوا فيون من حزب الجمهوريين المحافظ دفع لزوجته أمولا عامة في مقابل مهام غير منجزة، جعل المنتصر إيمانويل ماكرون الشفافية قضية مركزية في حملته الانتخابية في نهاية المطاف.

من عجيب المفارقات إذن أن يُجبَر أربعة من أعضاء مجلس الوزراء الخمسة عشر الذين اختارهم ماكرون في مستهل الأمر ــ بما في ذلك أحد أقرب المستشارين إلى الرئيس ــ إلى الاستقالة عقب صدور تقارير عن سوء سلوك مزعوم أو إساءة استخدام الأموال العامة، حتى قبل صدور أي حكم قضائي. كما أُرغِم عضو معين حديثا في المجلس الدستوري الفرنسي على الاستقالة، بعد تقارير إخبارية زعمت أنه عين ابنته في وظيفة وهمية أثناء خدمته في مجلس الشيوخ.

وقد واصلت وسائل الإعلام الفرنسية التحقيق في فضائح أخرى محتملة. ولكن في الوقت الحاضر، يبدو أن السلسلة الأخيرة من الحوادث المؤسفة انتهت. فوفقا لوعد حملته الانتخابية، وَقَّع ماكرون على قواعد جديدة للأخلاقيات الحكومية لتحويلها إلى قانون. وبموجب "قانون إعادة بناء الثقة في العمل العام"، يواجه الموظفون العموميون مجموعة من القيود الجديدة. فالآن لا يجوز لهم تعيين أفراد أسرهم في مؤسساتهم. كما جرى تجريدهم من علاوتهم الإجمالية في مقابل رسوم مهنية. ويُحظَر عليهم استخدام "صندوق الاحتياطي البرلماني" لتمويل مبادرات محلية.

لا شك أن قانون أخلاقيات ماكرون ليس الأول من نوعه. ففي عام 1988، استنت قواعد جديدة للشفافية في الاستجابة لسلسلة من الفضائح السياسية في العام السابق. وقد أسست إصلاحات 1988 في فرنسا لنظام الأحزاب السياسية الممولة بأموال عامة، وألزمت كل الأعضاء المنتخبين في الجمعية الوطنية بالتقدم إلى لجنة منشأة حديثا بإفصاح مالي كامل.

ثم في عام 2013، بعد أن تبين أن وزيرا رفيع المستوى خبأ أموالا في حساب مصرفي في الخارج، جرى استنان قانون آخر للأخلاقيات، والذي ألزم أعضاء الحكومة بالكشف علنا عن استثماراتهم وأصولهم. ومُنِحَت هيئة عليا معنية جديدة بتعزيز الشفافية في الحياة العامة صلاحيات بعيدة المدى للتدقيق في إفصاح الموظفين العموميين ونشرها، وإصدار الأحكام بشأن سوء السلوك وتضارب المصالح، وإحالة المخالفات إلى مكتب المحامي العام.

وفي عام 2017، نشرت الهيئة العليا للمرة الأولى استمارات الإفصاح عن أصول كل المرشحين الرئاسيين على موقعها على شبكة الإنترنت. ولكن الأمر الأكثر أهمية أنها أرجأت تعيين الحكومة الجديدة لمدة يوم حتى تتمكن من فحص المرشحين الوزاريين المقبلين. ومع ذلك، أجازت هذه العملية على نحو أو آخر تعيين الوزراء الأربعة الذين اضطروا إلى الاستقالة بعد توليهم مناصبهم بفترة وجيزة.

بطبيعة الحال، توجد مثل هذه الضوابط في أغلب الدول الديمقراطية، وخاصة في الولايات المتحدة، حيث يتولى مجلس الشيوخ الأميركي اتخاذ الإجراءات الواجبة بشأن أغلب تعيينات الرئيس. وقد أحرزت دول غربية عديدة تقدما كبيرا على مدار العقود القليلة الأخيرة لتحسين الشفافية الحكومية والمؤسسية، وضمان العطاءات التنافسية للعقود الحكومية، وما إلى ذلك. ومن المفهوم على نطاق واسع أن المواطنين الديمقراطيين لديهم الحق في الوصول إلى الوثائق الحكومية والإدارية، والاطلاع على الأسباب وراء القرارات التي تؤثر عليهم. وتتفق هذه المعايير مع مبدأ الحكم السليم الذي يتجسد في ميثاق الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية.

في فرنسا، كان أحدث مثال لهذا التحول نحو المزيد من الشفافية مرتبطا ببريجيت ماكرون. فبعد الاحتجاج علنا على أنها ربما تحصل على مكانة قانونية باعتبارها "سيدة فرنسا الأولى"، نشرت إدارة ماكرون على موقع الإليزيه "ميثاق شفافية يشأن زوجة رئيس الدولة"، والذي أكد أنها لن تتلقى أي تعويض أو ميزانية خاصة بها. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تتضمن هذه الوثيقة الكلمة السحرية: الشفافية.

وقبل ذلك، جرى اتخاذ عدد من الخطوات الأخرى لتعزيز الشفافية في الحياة العامة: إقرار قواعد جديدة لمكافحة الفساد، والقضاء على المحسوبية في العقود الحكومية أو وظائف الخدمة المدنية، وجعل المناقشات الجارية أكثر انفتاحا على عامة الناس. ومن المؤمل أن تساعد هذه الجهود في تعزيز الثقة العامة في المؤسسات الفرنسية.

ومع ذلك لا تُظهِر استطلاعات الرأي شيئا من هذا القبيل. بل على العكس من ذلك، واصل الشعب الفرنسي المطالبة بالمزيد من المساءلة من قِبَل القائمين على السلطة. ويرجع أحد الأسباب وراء ذلك إلى أن وسائل الإعلام الرقمية الناشئة، والسباق بين المنظمات الإخبارية، والصحافيين الاستقصائيين، والمنظمات غير الحكومية المتزايدة النشاط، توفر دفقا مستمرا من أسباب عدم الثقة. وعلى نطاق أوسع، أصبح المواطنون الذين يكافحون من أجل تدبير تكاليف الحياة مستائين ومرتابين على نحو متزايد إزاء أولئك الذين ينظرون إليهم على أنهم من النخب الثرية ذات النفوذ ــ وخاصة الساسة.

في الوقت نفسه، جرى توسيع نطاق عمليات المراجعة الضريبية التلقائية ومتطلبات الإفصاح عن الأصول المعمول بها منذ عام 2016 بحيث تنطبق على عدد أكبر من موظفي الخدمة المدنية؛ كما جرى تمديد تعريف "تضارب المصالح" على نحو متزايد. والواقع أن تجليات الشك العام على هذا النحو لا تدل عل مناخ سياسي صحي.

لا شك أن متطلبات الشفافية الأكثر صرامة عملت على تحسين الممارسات الديمقراطية في العديد من الدول الغربية في العقود الأخيرة. ولكن الدفاع عن الخصوصية الشخصية يظل من الأهداف السارية، ومن الواضح أن الحفاظ على السرية في بعض المجالات، مثل الأمن الوطني والدبلوماسية وحقوق الإنسان، ضرورة أساسية.

لن يكون إيجاد التوازن بين الضرورات المتضاربة للشفافية والخصوصية بالمهمة السهلة أبدا، وخاصة عندما يميل المشهد السياسي نحو قدر متزايد من المساءلة. بيد أن صناع القرار في أي ديمقراطية ملزمون بالقيام بهذه المهمة الحاسمة الجاحدة على وجه التحديد.

* رافائيل هاداس ليبيل، مؤلف كتاب مائة وثلاث كلمات عن الديمقراطية الفرنسية، ورئيس قسم فخري في مجلس الدولة الفرنسي وأستاذ سابق في معهد الدراسات السياسية في باريس
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق