q

في الجغرافيا، يعتبر المكان عند الجغرافي بمنزلة الزمان للمؤرخ: قراءة العالم من وجهة نظر المكان يعود للجغرافيين دراسة انزراع النشاطات، تنظيم المدن، توضيب التربة، إقامة الحدود، شبكات النقل، وغير ذلك.

تنظيم المكان

تقليديا، اهتمت الجغرافيا البشرية كثيرا بموقعة النشاطات وتنظيم المشهد (مصر هبة النيل) يقول هيرودوس. فالطبيعة تفرض بالتأكيد على النشاطات البشرية بعض الالزامات: فالموانيء تنغرس على طول الأنهار وعلى شواطيء البحار، ونمط الزراعة يرتبط بالمناخ وبالارض، والصناعة تنطلق غالبا من المناطق التي توجد فيها المناجم. ولذلك كانت فكرة المشهد والوسط في صلب الجغرافيا التقليدية.

حول أواسط القرن العشرين تحررت الجغرافيا من حتمية تاريخية ضيقة، اذ اعتبرت ان الانسان يصنع محيطه وهو ليس نتاجا له وحسب: من خلال ري الأرض والتصنيع والتمدن والنقل.. بل ان النشاط في الأرض لم يعد محكوما بالوسط الطبيعي. فكاليفورنيا باستطاعتها ان تطبق تقنيات جديدة على ارضها الجافة، واليابان وكوريا الشمالية قد طورتا اقتصادهما من دون اية موارد طبيعية.

وفي الخمسينات والستينات انفتحت الجغرافيا على مختلف الحتميات الاجتماعية والتاريخية التي تلقي بثقلها على التنظيم المكاني: تاريخ الرجال، مبادرات الدولة، الابتكارات الثقافية التي تلعب دورها اكثر من الوسط الطبيعي في تحديد النشاطات. ومع ذلك يخشى ان تفقد الجغرافيا خصوصيتها الاختصاصية. وفي هذه الحقبة أيضا بدأ الجغرافيون التفكر في المكان مستخدمين عبارات جديدة. فاذا كانت النشاطات قد تحررت شيئا فشيئا من الحواجز الطبيعية فذلك لا يعني ان الحواجز المكانية قد زالت. ان تحديد النشاطات قد اعيد التفكير به انطلاقا من نماذج نظرية جديدة تأخذ بمنطق المسافات وتمركز النشاطات وأماكن الجذب. من هنا اعيد اكتشاف نماذج مكانية، حيث  أثيرت في الثلاثينات نظرية الأمكنة المركزية كما أوردها فالتر كريستال او تنظيم المدن كما وضعته مدرسة شيكاغو.

المكان المعيوش والتمثلات المكانية

منذ الثمانينات، انكبت الجغرافيا الثقافية على الطريقة التي يشغل بها الناس أماكن سكناهم، أماكن الصيد او العمل. لاحظ الانثروبولوجيون وبسرعة ان المكان ليس مكان إقامة محايد. فبعض الأمكنة خاصة بالاحتفالات المقدسة، وبعضها يمنع دخول الرجال، او النساء، وبعض الأمكنة لابد من تحاشيها لوجود أرواح شريرة فيها.

فيما خص شغل المكان، شغلت الدراسات الوصفية للقرى والمدن اهتمامات الانثروبولوجيين. يصف برونيسلاو مالينوفسكي كيف تبني بعض القبائل القرية حول ساحة مركزية تخصص للاحتفالات وللرقص وللنشاطات الجماعية. والمساكن العائلية تنتظم تبعا لمرتبة كل مسكن.

وحاول ليفي ستراوس ان يبني نظرية رمزية حول شغل الأمكنة، انعكاسا لبنية اجتماعية وعقلية شديدة القوننة.

يصف الانثروبولوجي موريس غودلييه تنظيم قرى بارويا في غينيا الجديدة كما يلي: (كانت القرى مقسمة الى ثلاثة مناطق، يسيطر بيت او عدة بيوت على القرية وهي بيوت تخص الرجال تتحدد بأماكن تمنع على النساء.

وهنا يعيش الأولاد الذين يفصلون عن امهاتهم بعد سن التاسعة او العاشرة بهدف تدريبهم.. في اسفل القرية وفي منطقة من الأشجار والادغال تنجب النساء الأطفال، والمكان محرم على الرجال، وبين هذا الحد الأعلى والادنى من القرية تتوزع امكنة يعيش فيها الجنسان معا، البيوت التي تسكنها العائلات التي تحتوي على الزوج، وزوجته او زوجاته، وبناته غير المتزوجات وأولاده الصبيان غير الخاضعين للتدريب.

في العديد من المجتمعات التقليدية تبنى القرى تبعا لقواعد دقيقة في شغل المكان: ثمة بيت يخصص للرجال، وثمة مكان يخصص للنساء، وبعض الأمكنة تخصص للاحتفالات، وبعضها يخصص للقادة والشامان. هذه الأماكن الخاصة أو العامة، المخصصة للبعض والممنوعة على اخرين هي معالم رمزية قوية، ومن ينتهكها يرتكب محرما فعليا.

حتى داخل البيوت أيضا نجد تقطيعا رمزيا للمكان، يقسم المكان الداخلي بخط وهمي يمر بوسط البيت. في نصف الدائرة القريبة من الباب تنام الزوجة والأولاد. وفي الجانب الاخر نجد مكانا للزوج، وهنا يجب ان يجتمع كل الرجال الذين يدخلون البيت. على المرأة ان تتحاشى الدخول الى الجزء الخاص بالذكور.

ان السلطة والوضعية والمقدس لها مطرحها في المكان. وهذا التعين المكاني ليس خاصا بالمجتمعات التقليدية. اننا نجده في المجتمعات الحديثة وتحت العديد من الاشكال. مكتب الزعيم الكبير، وقسمة المنافع العامة بين الرجال والنساء، المكان المخصص للكنائس والمساجد والسفارات..

اضف تعليق