q

اجتهد المفكرون والدعاة الأحرار السابقون حتى يجعلوا من حياة الإنسان أكثر لياقة به، وتصدوا بالحرف والكلمة والاعتدال والحكمة والتنوير، لموجات التطرف التي كانت ولا تزال تضرب البشرية كي تعود بها الى الوراء دائما، ولعلنا لا نختلف في أمر مهم وجاد وهو أن أروع المنجزات التي حققها العقل أنه ساعدنا على أن نبني حياة تليق بنا، ودفعنا دائما نحو كفة المعرفة والعلم على حساب الجهل والتطرف، وبذلك أخذت رحلة الإنسان تتقدم شيئا فشيئا باتجاه المعاصرة والارتقاء ولم تتوقف عند حد معين، فجديد الأمس هو قديم اليوم وجديد اليوم هو قديم الغد وهكذا تتواصل الرحلة الإنسانية وتتقدم من انجاز الى آخر، ليس على الصعيد المادي فحسب بل على الصعيد الفكري الذي يتضمن الفروع المعنوية الأخرى كالأخلاق والدين والأعراف ومنظومة القيم كافة، فهذا بحد ذاته يمثل منجزا عظيما للإنسان وهو يسعى قُدُما نحو التحرر والاكتمال.

في كل يوم جديد يكتشف العقل أن التطرف لم يعد يليق بالحياة المدنية السليمة، لهذا لم يعد التعصب والتطرف يليق بالعصر الراهن بعد أن قطع الإنسان رحلة طويلة وقاسية في تشذيب الأدران الكثيرة التي ألحقها التعصب والقبلية والتطرف بمسيرة الكائن البشري، لذا فإن أي مؤشر يظهر بخصوص التطرف في النشاط البشري يُنظر له بعين ساخطة مزدرية ورافضة في آن واحد، ولا ينحصر هذا في المواقف الفردية بل غالبا ما نلاحظ توجها جمعيا نحو رفض التعصب باعتباره أصبح من مخلفات الماضي حيث لا ينبغي العودة إليه تحت أية مبررات كانت مهما كانت الدوافع التي تقف وراءها.، ومع مرور الزمن نلاحظ تطوير واكتشاف صيغ جديدة لوأد كل العناصر المحفزة لظهور التطرف بأنواعه وأشكاله كافة.

التطرف سرطان فكري

وفي كل حين تظهر دعوات التطرف والتجاوز على حقوق البشر، تكون هناك سدود فكرية دينية قوية تقف بالضد من هذه الدعوات، فقد بزغت هنا وهناك مثل هذه المواقف المتطرفة ولطخت وجه الحضارة المعاصرة بزغت أصوات مضادة لها وارتفعت عاليا بالرفض والإدانة كونها لا تتسق مع روح العصر وتتناقض مع التضحيات الجسيمة التي قدمتها البشرية على طريق تحقيق التواؤم الانساني واستقراره وتطوره في الوقت نفسه.

إن القول بأن مرض التطرف لا يقل فتكا عن السرطان ليس بالأمر المبالغ به، فالسرطان مرض عضوي فتاك، والتطرف مرض فكري لا يقل فتكا عن الأول، خاصة عندما تتبنى جماعات معينة متطرفة مهمة نشر الفتن بين أمم العالم، فضلا عن نشرها بين أفراد الأمة الواحدة، وهناك من يخطط بدقة ويمول ويتابع ويقود لكي يؤجج نيران التطرف والفتن حتى يزيد من سعير التطرف، والخسائر دائما ستكون من حصة الأمم الأقل وعيا من تلك التي باتت تتسلح بوعي وثقافة لا مجال لاختراقها.

لذلك ينبغي أن لا يكون هناك أي مكان للدعوات المتطرفة، أيا كان مصدرها أو الأفراد والجهات التي تقف وراءها، ولهذا فإننا نستغرب ظهور مثل هذه الدعوات في وسط إنساني يدّعي تصدر الحضارات المعاصرة، ويؤكد على قيادة المسيرة الإنسانية، فثمة تناقض واضح وكبير بين القول والفعل وبين التعصب الواضح والملموس وبين القول المهذب، ولابد أن تكون هناك أسباب تقف وراء ظهور مثل هذه الدعوات المرفوضة ليس من لدن المستهدفين بها وإنما من لدن البشرية التي تتقاسم المعمورة منذ أن بدأت رحلة الحياة فيها باعتبارها معنية بالخلل والأخطار التي لابد أن تتمخض عن مثل هذه الدعوات المتطرفة، ولهذا يعد التطرف والفكر الذي يدعمه مرفضا مهما كانت المسوغات أو التبريرات التي تقف وراءه وتسعى كي تجعل منه أمرا مقبولا.

البشرية لا عودة الى الوراء

لذلك لا يمكن أن يتساوى دور الإنسان البسيط مع صاحب القرار أو مع المفكر والداعية والمثقف في قضية دحر التطرف، من هنا فإن قادة الحضارة والمهتمين بشأن العالم مدعوون جميعا الى النظر بدقة الى مثل هذه الدعوات المتعصبة والمرفوضة جملة وتفصيلا، وذلك من أجل حماية المنجزات التي تحققت لصالح البشرية عبر مسيرتها الطويلة والشائكة، ولا يجوز أن تمر مثل هذه الأخطاء الجسيمة من دون بحث وتقص عن الأسباب التي أسهمت بظهورها والنتائج التي أدت إليها او التي قد تقود إليها لاحقا، لسبب واضح أن البشرية في هذا العصر ومع الرحلة التي قطعتها، لم يعد مقبولا أن تغض الطرف عن موجات التطرف وعن الجهات التي تثيرها، أو عن الذين ينظّرون لهذا الفكر الفتّاك.

إذ من غير المعقول أن تعود البشرية الى الوراء بعودة التطرف والتعصب والكراهية تتحكم بالمصائر كافة، فليس مقبولا بعد هذا التأريخ الطويل للمنجزات الإنسانية على طريق التحرر والتنوع والتعايش البشري أن يتغاضى الإنسان المسؤول أخلاقيا وفكريا عن مثل هذه الأخطاء التي قد تبدو غير ذات أهمية في بدايتها او أنها ليست مؤثرة على مسار العلاقات المتبادلة بين الأمم، لكنها في حقيقة الأمر لابد أن تترك آثارها في مسار الحضارة الراهنة، وتسعى لتخريب ما أنجزه البسر على طريق التطور والابتكار في ظل التواد والتقارب والانسجام بين بني البشر.

نعم البشرية بحاجة اليوم الى الوقوف صفا واحدا لدحر التطرف، ولابد أن تتعاضد الجهود الفردية والجماعية بين المعنيين بتلاقح التجارب والافكار البشرية من أجل التنبيه على أهمية مغادرة بؤر التوتر والتعصب والعمل على تجفيفها بالتحاور والطرق السلمية الاقناعية المتبادلة بين الجميع وذلك من اجل الحفاظ على ما تحقق من منجزات علمية وأخلاقية متضافرة كانت ولا تزال تصب في صالح البشرية جمعاء، وهكذا فإننا جميعا نتفق على رفض التعصب أيا كان مصدره او نوعه او أسبابه، وحتما سنتفق على مقارعته بالأساليب السلمية المقبولة من لدن الجميع حفاظا على ما تحقق في الجانب الايجابي من حضارتنا التي لا يمكن تسجيلها باسم أمة واحد حتى لو ادّعت أنها صاحبة الحضارة، ذلك أن الجميع عبر التاريخ أسهم فيما وصل إليه الإنسان من تقدم ورفاهية واستقرار، وإن كانت هناك بؤر هنا وهناك تبث التطرف لكنها مع الوقت سوف تزول، إذ لا يصح إلا الصحيح.

اضف تعليق