q

الفكر نتاج لفظي للعقل، كلمات مجردة بدايةَ من الفعل، تنتهي الى هدف أو شيء ملموس، فكري مادي، فالفكر يعني ترتيب أمور معلومة لتحقيق غاية ما، ويستخدم في الدراسات المتعلقة بالعقل، ويشير إلى قدرته على تصحيح الاستنتاجات بشأن ما هو حقيقي أو واقعي، وبشأن كيفية حل المشكلات، وعادة يرتبط الفكر بالفلسفة والتبصّر.

في الفلسفة، لاسيما الكلاسيكية منها وفلسفة القرون الوسطى يعتبر الفكر أو nous موضوعا مهما مرتبطا بمسألة مدى قدرة البشر على معرفة الأشياء، وخلال العصور القديمة المتأخرة والعصور الوسطى تحديدا، كان الفكر يقترح في كثير من الأحيان كمفهوم يمكنه التوفيق بين المفاهيم الفلسفية والعلمية للطبيعة وبين المفاهيم الدينية التوحيدية، وذلك عن طريق جعل الفكر رابطا بين كل روح بشرية والفكر الإلهي الخاص بالكون نفسه.

ولكن ثمة مشكلة معقدة تتعلق بالفكر من حيث طبيعته وأهدافه وأدواته، فثمة فكر متطرف، وهذا النوع من أخطر أنواع الفكر، وقد تكون أدواته عنيفة تلحق الأذى بالآخر قد يصل الى إزهاق الأنفس، مقابل ذلك يوجد الفكر المعتدل، هذا النوع يرفض العنف، ويسمع الآخر، قد لا يقبله لكنه لا يدعو الى تعنيف المسارات الأخرى للفكر، ويرفض الإكراه والقسرية، ويؤمن بأن الفكر يهدف الى نقل صورة جميلة تحمل مبادئ وقيم سامية مبنيّة على واقع معيّن، وهذه القيم تنقل صورا مبدئية تهدف الى تغيير صورة الواقع من الأسوأ الى الأفضل.

هل الفكر ميزة بشرية؟ الإجابة ستكون بنعم حاسمة، فالكائنات الأخرى لا تنعم بهذه الميزة، حيث يتمتع الإنسان بالتفرد عن الكائنات الاخرى، بمخيلة لايحد سعتها وعوالمها شيء، لا الواقع ولا غيره، مخيلة فعالة أسهمت بتغيير حياة الانسان على نحو متجدد على الدوام، ودفعته الى المخاطر الكبرى التي حققت له النجاحات الكبرى ايضا، في مجالات فكرية وعلمية وصناعية وزراعية واتصالية لا تحدها حدود أو مضادات من أي نوع كانت.

هذه القفزات البشرية المتلاحقة، لم تتحقق بوجود العقل وحده أو المخيلة فحسب، ولا يعود الفضل كليا لها، بل هناك وسائل مساعدة، أهمها الفكر، وبالتحديد الفكر الوسطي أو المعتدل، فالعالم كله والتأريخ البشري عبر تطوره المتنامي يقف إجلال للمفكرين العظماء الذي غيروا الأمم والشعوب عبر التاريخ، فهذه الأداة الخلاقة التي آزرت المخيلة البشرية، وزجّت في عقول الناس المختلفة، ملايين او بلايين المعلومات التي سهّلت لها التجديد والمغايرة، تعد أهم السبل التي ارتادها العقل كي يحقق القفزات المتتابعة وصولا الى ما حققه الإنسان في عالمنا المعاصر.

كيف يتحقق الفعل المختلف

الأفعال هي التي تغير الفرد، وتبني الدول، وتسمو بالأمم، ولكن ما هو مصدر الأفعال، إن كل فعل يحدث فوق هذه البسيطة مصدره فكرة تسبقه، إذ يتحول الفعل بلا فكر الى حركات وأنشطة عشوائية ميؤوس منها ومن نتائجها التي تمنح الإنسان أو الجماعة ميزة أو إضافة ما، إذاً المؤسس للفعل فكر ينتجه العقل، وثمة اشتراط آخر، كي يكون الفكر جديد متميز، لابد أن يقود الى فعل يحمل السمات والصفات المهمة والقادرة على التغيير الى الأحسن.

علما أن البشرية تعلّمت في جميع مراحل تطورها، على كيفية تغيير آليات العمل والتفكير المعتادة، وأسست وطوَّرت أنماطا كثيرة ومختلفة من أشكال العيش، من خلال التطوير الدؤوب لأنواع التفكير التي تؤدي بدورها الى حقول العلم المختلفة، والآداب والفنون والعلوم الإنسانية، ولكن بقي المتميز منها والمفيد والمؤثر، هو الفكري المعتدل الذي ينظّم جميع الأنشطة الفعلية للناس ويجعل منها مقبولة وسطية هدفها دفع عجلة الحياة قُدُما في جادة التغيير الأمثل.

هناك سؤال مهم جدا يفرض نفسه على عصرنا أو واقعنا، فمع هذه القفزات الفكية المتتابعة التي حققتها البشرية، عبر رحلتها الشاقة المتواصلة، إلا أن هنالك محطات انحراف فكري شوهّت الجهود العملاقة التي بذلها الإنسان في مجال الفكر كي يغير واقع وحياة الإنسان من أسود الى أبيض، أو من أسوأ الى أفضل، فلماذا انحرف الفكر، وكيف غادر الوسطية الى جهة التطرف، ولماذا تفاقم الاحتقان العالمي، ومن يتحمل مسؤولية تصاعد الموجات الفكرية التي تقصي الآخرين وتكفّرهم وبعضها تبيح قتلهم، وتدعو الى تدميرهم لمجرد أنهم ينتجون ويحملون ويؤمنون بأفكار تختلف عن أفكارهم، كأن تكون معتدلة مكتفية بطرح مضمونها من دون إكراه على العكس من الفكر الذي يفتقد للاعتدال فيصبح عاهة مستدامة يعاني منها العالم كله، والأمثلة كثيرة ومعروفة في هذا المجال.

إذاً كي يتحقق فعل مختلف لابد من فكر معتدل، فالفعل كما قلنا ناتج حتمي للأفكار، ويرتبط بها من حيث النوع والتوجّه والإنتاج، من هنا تتكاثف الدعوات الفكرية لاعتماد الاعتدال الفكري طريقا لتغيير العالم ككل، بدءا من تغيير الفرد، فالجماعة، فالدولة، ومن ثم نشر هذا الفكر الوسطي في عموم المعمورة، كي يكون بمقدور الجميع أن يسمعوا بعضهم غير ملزمين بالقبول بما يسمعونه، وغير مضطرين لخوض الحروب والنزاعات بسبب الأفكار المختلفة الاتجاهات والأهداف.

بالنتيجة ليس أمامنا سوى أن نقول بأن الفعل المختلف، الهادف الى التغيير الأفضل، يعتمد على نحو تام في تحقيق هذا الأمر على الفكر المعتدل، الذي لا يقصي الآخرين، ولا يكفّرهم، ولا ينظر إليهم على أنهم أعداء، وإنما من الأفضل اعتماد منهج الاحترام المتبادل، وعدم التصادم، مع أحقية طرح الأفكار باستثناء تلك التي تنطوي على العنف او التحريض به ضد الآخر بسبب التعنّت والعماء الذي يصيب العقول والأفكار المتطرفة.

خطوات من الجمود الى الحركة

في مجتمعاتنا هناك جفاف في الفكر، وفي بعضها ظهور أفكار تعود بنا الى الوراء، ومنها من يتحصّن بالعادات البالية، وثمة من يذهب الى التكفير الفكري والعقائدي، كوسيلة يحقق فيها مآربه من خلال الخلاف المفتعل مع الآخر، هل هناك مؤشرات ملموسة عمّا نقول؟ بإمكان المهتم والمتابع أن يلمس الكثير من المؤشرات، ويطّلع على الكثير من الأدلة كي يتأكد من أن جفاف الفكر موجود بالفعل، وأن اتهام الآخر بالكفر صار وسيلة للإبقاء على الجهل يحيط بمجتمعاتنا.

كي السبيل الى معالجة هذا الواقع، بعد أن لمسنا وجوده (بالصوت والصورة) وهو يعيش بيننا ويحاول أن يفرض وجوده علينا، إن المفكرين ورجال الدين والمثقفين والنخب الاخرى السياسية وسواها، تتحمل المسؤولية الأولى والأكبر لرصد هذه الظواهر الفكرية المتطرفة، إذ لا يمكن أن يتصدى لها الفرد أو الجماعة الأقل وعيا، كذلك لابد أن يكون هنالك دور حاسم للمنظمات المدنية والمجتمعية عموما، في هذا المضمار، إذ لا يمكن البقاء في حالة السكون والتفرّج على مثل هذه الأفكار الخطيرة، وهي تنمو وتسعى لتأسيس وتطوير حركات فكرية واقعية تمنع التغيير وتدمر الفرد والمجتمع والدولة في جميع ما تهدف إليه.

مطلوب حملات مضادة لبؤر هذه الأفكار، ومتابعة يومية، من خبراء ومختصين لهم القدرة على الرصد والتمييز، في الوقت نفسه، لا مناص من إطلاق حملات إعلامية كبرى، تسلط الضوء على اخطر الكبير الذي تنتجه بؤر التطرف، ولابد من التشجيع على انتاج الفكر البديل متمثلا بالاعتدال والوسطية، لاسيما بعد أن صارت وسائل الاتصال هي الطريق العملي المتاح للمعتدلين كي يباشروا على نحو فوري ودائم في مكافحة الأفكار المريضة المحصَّنة بالتطرف والتكفير.

اضف تعليق