q

الصورة النمطية لحياتنا باتت مزعجة الى حد خطير، في التفكير والعمل وفي النظرة للحياة ومواقفها، أما حين يتعلق الأمر بالشباب فإننا نقف إزاء معضلة متفرعة، خصوصا مع وجود شبكات التواصل وانتشار نوع من الأفكار النمطية التي تحث على نشر لغة حوار بائسة في معظم الأحيان، وقد ينظر المسؤولون الأخلاقيون والحكوميون والتربويون الى هذه الحالة بشيء من عدم الاهتمام كالعادة، بيد أن السيل بلغ الزبى، ومن غير الممكن أن تستمر حالة الاستسلام النمطية تهيمن على العراقيين وبالأخص فئة الشباب منهم.

إننا في واقع الحال مطالبون بالبحث عن طرق وأساليب تتجاوز النمطية خصوصا ما يتعلق بلغة التحاور والمحافظة على القيم، وتعضيد الجانب الروحي الذي أخذ يتهدم مع مرور الوقت، فمما لا شك ان القيم الاجتماعية والحفاظ عليها، هي هدف دائم ويعد من مسؤولية الجميع، لكن فئة الشباب تختلف عن غيرها من الفئات العمرية التي تتوزع على الطفولة والمراهقة والكهولة وكبار السن، إذ أن مرحلة الشباب هي الأكثر حيوية ونشاطا وحماسا أيضا، لذا غالبا ما يحتاج الشباب الى آفاق واسعة رحبة من الحرية، للتعبير عن طاقاتهم وإبداعاتهم الكثيرة والمتنوعة، ولتحويلها من كونها تصورات او أحلام او أفكار الى حالة ملموسة، وان أي خلل في هذا الجانب يؤدي الى تعثر مواهب الشباب وحياتهم أيضا، واستمرا الرؤية والتفكير والسلوك النمطي بالهيمنة على حياتهم.

من بين ما يراه بعض المشغولين بقضايا الشباب، جعل شهر رمضان فرصة مواتية لإحداث التغيير المطلوب على مستوى الشباب والمجتمع عموما، ففي هذا الشهر يمكن ان تتجدد فرص الشباب وغيرهم لتعميق القيم ولضرب ثبات النمطية في التفكير والنظرة الى الحياة، والتعامل مع ما يستجد في التقانة والتكنولوجيا والعلوم الإنسانية أيضا، فثمة مجالات كثيرة لتعبير عن مواهب الشباب وطاقاتهم ولكنها في هذا الشهر يمكن أن تكون مضاعفة وأكثر تأثيرا في نفوسهم، ويمكن تحويل أفكارهم وإبداعاتهم الى عمل مجسّد، ولكن يبقى الأمر منوطا بالجهات ذات العلاقة، سواء الأهلية او الرسمية الحكومية مع أهمية أن يتفاعل الشباب أنفسهم مع كل من يسعى للوقوف الى جانبهم من أجل زحزحة الأسس المتخلفة في جانب القيم والأعراف وطرق التفكير والسلوك.

عصر الانفتاح العالمي

ومما يلاحَظ أن هذه الشريحة باتت تعاني من مشكلات عديدة، خاصة أنها دخلت عصر الانفتاح العالمي بعد أن كانت حبيسة الجدران والقمع السياسي الذي فرض منهجا نمطيا غير قابل للتجاوز، ومع ذلك لابد من القول أن الشباب ظلوا مهمَلين على الدوام، إذ ليس هناك برامج وخطط عملية لاستيعاب مواهبهم، وهذا الوضع لا يتعلق بشهر رمضان وحده، بمعنى أن الشباب على نحو خاص معرضون الى حالات الإهمال المزمن، لذا حين يأتي شهر رمضان المبارك قد يشكل حافزا للفاشلين المتلكئين باستيعاب طاقات الشباب، ولكن نحن نبحث في كيفية تغيير الصورة النمطية للفكر الشبابي ونظرتهم للقيم، وكيف يمكن أن يساعدهم الاهتمام بالجانب الروحي على عبور أزمة الجفاف الفكري والتردّي السلوكي.

إننا نؤكد على أن هذا الشهر يعد من أهم الفرص لدعم الشباب لأسباب منها أنه قادر على أن يكسر نمطية الزمن، ويغير السائد والمعتاد في الحياة، لذا كلنا عايشنا الأنشطة الاجتماعية والثقافية والفنية التي تأخذ طابعا ترفيهيا مفيدا، حيث تقدم الأعمال الفنية او الأدبية او التاريخية، فيما تنشط العلاقات الاجتماعية، وتزداد المحافل ذات الطابع الديني أيضا، وهكذا يتحول المجتمع برمته في هذا الشهر الى خلية نحل منتجة في عموم المجالات، حيث يمكن للجميع لاسيما الشباب منهم أن يعبروا في هذا الشهر عن مواهبهم وطاقاتهم وقدراتهم الكامنة، فيما لو قامت الجهات المعنية بتوفير الفرص المناسبة لذلك، وهكذا يتم الإسهام بفاعلية عالية على كسر نمطية التفكير والسلوك لدى شريحة الشباب بالخصوص.

من هنا فإننا نفهم بأن شهر رمضان فرصة لتقويم الشباب، وتركيز القيم وترسيخها في سلوكهم وطباعهم وأفكارهم، خاصة أننا كمجتمع عراقي نعاني من اختلال قيمي واضح، فقد انتشرت ظواهر غريبة بيننا، كما تزايدت ظاهرة الاختلاس والتجاوز على المال العام، وحالات التزوير والاحتيال وغسيل الأموال والمضاربات والمتاجرة بما يسيء للطبقات المتدنية، وهكذا حدث هذا التغيير الملحوظ في منظومة القيم، التي دخلت فيها مضامين، أخلاقية وسلوكية غريبة، على المجتمع العراقي، وقد أصبح الاختلاس والسرقة وتعاطي الرشوة، نوعا من الشطارة، لبناء حياة الفرد والعائلة العراقية، وهنا تكمن الخطورة في نمطية التفكير والسلوك، بمعنى نخشى كل الخشية من أن تتحول هذه الأفعال الى حالة نمطية تنتشر بين الجميع خصوصا الشباب مما يصعب القضاء عليها أو تغييرها.

صورة التفكير النمطي

ومن الواضح أن القيم الجيدة تراجعت واحتلت مكانها قيم رديئة نمطية، علينا مواجهتها بعلمية، كذلك تزايدت نزعة الحصول على الأموال، بغض النظر عن شرعية مصدرها، فالمهم في الأمر هو أن يحصل الفرد على المال، وفقا لقيم الشطارة التي شاعت بين أوساط المجتمع على نحو واسع خصوصا بين الشباب كونهم في مقتبل العمر، في حين كانت مثل هذه القيم معيبة، ولا يمكن أن يقبلها العراقي على نفسه، لكن في الحال الحاضر بلغ الأمر في أحيان كثيرة الى اعتبار مثل هذه السلوكيات، لا تشكل نوعا من الانحراف أو فقدان الشرف، ولا يمكن أن تكون نوعا من الشطارة كما هو متعارف عليه في صورة التفكير النمطي أو الذي قارب أن يكون نمطيا بين الشباب وغيرهم.

وهكذا علينا أن نبحث عن فرص التغيير ومساعدة الشباب في هذه المحنة المتفاقمة، لأن تنامي مثل هذه الظواهر السلبية، يشكل تغييرا خطيرا في منظومة قيم المجتمع عموما، وعلى الأفراد والجماعات المعنية، والنخب، ورؤساء العشائر، ورجال الدين، وكل من يهمه الأمر ملاحظة هذا التغيير الفادح، في منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية، وخطورة التساهل الخطير مع السلوكيات المنحرفة، واعتبارها نوعا من الشطارة، على أن الحلول تكمن في استثمار أي فرص متاحة للتصحيح، وما شهر رمضان إلا أحد أكبر وأهم هذه الفرص في حياتنا.

في الخلاصة نحن مجتمع يعاني اليوم من نمطية التفكير الذي يصنع بدوره نمطية السلوك، ما يؤدي بالنتيجة الى خلق جيل من الشاب الراكد، لذا سيكون أمرا مهما بل بالغ الأهمية أن نبادر وفق تخطيط مبرمج وعمل منتظم لتغيير الواقع النمطي للشباب، فكرا وسلوكا وإنتاج وحركة وفاعلية في معترك الحياة، ولعلنا لا نأتي بجديد عندما نقول، إن كل المشاريع الناجحة تبدأ بدعم الجانب الروحي وترميم الثقة التي فقدها الشباب بأنفسهم، ومن ثم الانطلاق بهم نحو عالم الابتكار والتجدد، فهذا هو ديدن الحياة أن تنمو وتزدهر وتغير ثوبها القديم باستمرار.

اضف تعليق