q

يتيح المنهج التعددي خيارات كثيرة لتحسين الأداء السياسي، وكما هو معلوم إذا صحَّتْ السياسة صحَّ ما سواها، حيث ينعكس النجاح السياسي غالبا على المجالات الأخرى، كالاقتصاد والتعليم والصحة، أما التطرف، فإنه لا يسمح بخيارات غير العنف، ولهذا بات عالما اليوم عنيفا بسبب انتشار مسببات التطرف، كالعصبية والتجهيل والدكتاتورية، ولكن علينا أن نعترف بأن بؤر العنف التي أخذت تتكاثر على نحو خطير في مناطق عديدة من العالم، يقف وراءها غياب الاعتدال، وانتشار الفكر المتطرف والكراهية.

ومن الشواهد التي تم مراقبتها، تبيّن أن ضمور الاعتدال ينمو ويتصاعد في المجتمعات المتأخرة التي تفتقر للوعي والثقافة، وتلك التي تحكمها قيم وعادات نافذة وموروثة، تجعل من سلوك الناس اليومي وأهدافهم القريبة والبعيدة، خاضعة للرأي والتخطيط المتطرف، مع غياب شبه تام لثقافة الاعتدال واحترام الرأي المقابل، والانفتاح على الفكر الآخر، والتعاطي معه ضمن حدود التحاور الإنساني، لذا يحدث الهبوط المبرمج للفكر السليم في مقابل مضاعفة التعصب.

والحقيقة تؤكد على أن الجدل بين المختلفين لا يعني فرض رأي أحدهم على الآخر، فيمكنك أن لا تطبق أفكار الآخرين ولكن لا ينبغي حدوث تصادم نتيجة الإيمان القطعي بالآراء الذاتية، وهذا لا يعني تطبيق الفكر المضاد وحتمية الإيمان به، بل معرفة الجديد كي تتداخل التجارب والأفكار، ليتم تصحيح الأخطاء وفقا للخبرة التي يتم تحصيلها من حوار الآراء، أو حوار الحضارات وليس تصادمها، وقد جاء في تعريف التطرّف، انه تعبير يستعمل لوصف أفكار أو أعمال ينظر إليها من قبل مطلقي هذا التعبير بأنها غير مبرّرة من ناحية الأفكار، ويستعمل هذا التعبير لوصم الأيديولوجية السياسية التي تعتبر بعيدة عن التوجه السياسي للمجتمع وقد يعني التعبير استعمال وسائل غير مقبولة من المجتمع مثل التخريب أو العنف، ما يتسبب في انتشار وتوافد مسالك عديد لتسلل التطرف الى العقول الرخوة أي المستعدة لقبول التطرف والتعاطي مع الكراهية كعنصر تعامل مع الآخرين.

في هذه الحالة سوف يصبح التطرف أكثر خطرا على الفرد والمجتمع، وتزداد الحاجة للاعتدال أضعاف المرات، اذا كان المجتمع ينطوي على التنوع، ويحتوي في نسيجه المجتمعي على أديان ومذاهب وأعراق وأقليات مختلفة، بمعنى كلما كان المجتمع موزّع على مكونات متنوعة، كلما كانت الحاجة الى التعايش أكثر أهمية، لآن المجتمع التعددي يستدعي توافقا وتعايشا وانسجاما بين مكوناته، فكل مكوّن يبقى محافظا على خصوصياته الدينية والثقافية وعاداته وما شابه، مع إمكانية التعايش مع المكونات الأخرى، في ظل تفاهم مشترك وتوحّد مجتمعي تذوب فيه الفوارق بين تلك المكونات مع الاحتفاظ بالخصوصية، وهذا الأمر يمثل تحديا كبيرا للمجتمعات التعددية ذات الوعي المتدني، خصوصا أن عالم اليوم يسعى الى تحقيق نوع من الاندماج المجتمعي القائم على المنهج التعددي في عموم مفاصل الحياة وأنشطتها المختلفة.

مع تطور العقل، وتناقل الخبرات بين الجماعات كالدول مثلا، باتت الحاجة كبيرة الى المنهج الذي ينسجم فيه المختلفين فكريا، من خلال الابتعاد عن التصادم، لذلك بات من الأسئلة الجوهرية التي تواجه إنسان العصر الراهن، انه كيف يواجه موجات التطرف المتنامية في عالم اليوم، لاسيما أن المجتمعات العربية تتعرض أكثر من سواها الى هذه الظاهرة، وان غياب الاعتدال سيقود الى التطرف بطبيعة الحال، وهذه ظاهرة قديمة متجددة في مجتمعاتنا، فطبيعة المجتمع المحافظ، وتمسكه بجذوره التقليدية، وقلة انفتاحه على الثقافات الأخرى، يجعله منكفئا على ذاته، فضلا عن المسببات الأخرى، مثل تفرعن النظام الدكتاتوري وسيطرته على مقدرات الشعب كلها، لذلك يلجأ الى حملات التجهيل لزيادة الفتن وموجات التطرف حتى يتاح له الاستمرار في العرش مدة أطول.

أما في قضية البحث عن مسببات ضعف المنهج التعددي في مجتمعاتنا، فإن الأمر قد يعود الى الأنماط التربوية أو جانب منها، ومع أن الناس معادن وأشكال، ولديهم أفكار مختلفة، إلا أن المحيط العائلي الذي يترعرع في الطفل، سيكون نافذته الأولى التي يطل من خلالها على العالم، وفي ضوئها تتشكل لدية الذاتية التي تستمر معه الى نهايات العمر، لذلك للتربية أثرها الفعال قمع التطرف وتحجيمه ومنه عن النمو في شخصية الطفل، او العكس عندما يكون المحيط العائلي موبوءً بالتطرف والعنف، عند ذاك تكون حالة الاعتدال بعيدة المنال إن لم تكن مستحيلة بالنسبة للإنسان الذي يولد ويترعرع وينمو في وسط متطرف، ولا ننسى الأماكن الأخرى التي ينشط ويتحرك فيها الإنسان، والطبيعة الفكرية لمن يتأثر بهم، ومدى درجة الاعتدال التي يتحلون بها، هذه العناصر وسواها مما هو متوافر بسبب الظروف، يمكن أن يدعم كفة التعدد كمنهج حياة، أو التطرف المغلق بحسب الفكر والوعي والثقافة والتربية والقيم التي ينشط في إطارها المجتمع والنظام السياسي.

قد نكون مطالبين بالبحث عن الحلول، وهناك من يرى أن الحلول أمر لا يصح التهاون في انجازه، لاسيما من ذوي العقول المتخصصة، وكما هو معروف أن الأسباب التي تقف وراء التطرف والعنف، لاسيما في المجتمعات التي لم تنل الفرصة الكافية كي تتجاوز حواجز الجهل والتخلف والحرمان، فضلا عن الإرث الفكري والعرفي وربما الخرافي أيضا، حيث يثقل هذا الإرث كاهل المجتمعات المتخلفة، ويدفعها بقوة الى رفض التجديد والركون الى ما هو ساكن الذاكرة الجمعية، لذا يستدعي الحال حملات متواصلة لتجفيف التطرف، ونشر المنهج التعددي كأسلوب منتظم لإدارة شؤون الدولة والمجتمع.

إذاً هناك أسباب تقف وراء ضعف او اندثار حالة الاعتدال لدى الفرد والمجتمع ايضا، وهناك عوامل مباشرة وغير مباشرة تغذي العنف، وتضاعف من التعصّب، وتدفع الفرد والجماعة نحو انتهاج السلوك التصادمي مع الآخرين، في حين تستدعي حالة الوسطية والاعتدال درجة من التعايش، تسمح للجميع أن يقبلوا بعضهم البعض، بما هم عليه من أفكار يؤمنون بها، لكن لا يحق لهم فرضها على الآخرين، نعم أنت حر بأفكارك، ومن غير الممكن أن تفرضها على الآخرين في مجال التطبيق الملزم، ولا ينبغي للآخر أن يفرض عليك أفكاره التي لا تتناسب ومعتقداتك أو ما تراه مناسبا لك!.

بالنتيجة سوى نخلص الى أولوية العمل على مواجهة الحكومات الفردية والأنظمة الدكتاتورية بوصفها ذات منهج أحادي مركزي، لهذا لابد من العمل بقوة لرفض كل أنواع الكبت التي تدمر وتمسخ شخصية الإنسان، وتحد من طاقاته الفكرية الخلاقة، وهذا يستدعي معالجات جوهرية لأسباب الاستبداد والقمع وكل مظاهر التكميم ومصادرة الرأي، وما شابه من إجراءات تعسفية تلجأ إليها الحكومات الفاشلة، أملا في إطالة عمرها مع فسادها.

في حين أن التجارب كلها كشفت فشل هذا النوع من الحماية، وأثبتت أن المنهج الدكتاتوري وإن كان يحقق فوائد مادية سريعة وشخصية للحاكم وذويه ومعاونيه، لكنه سوف يبقى مهددا بالزوال لأنه قائم على إلحاق الأذى بالناس، أما المنهج التعددي في إدارة شؤون المجتمع، فهو يعود على الجميع بالفائدة، كما أنه أكثر تطورا ومواكبة لما يجري في العالم من مستجدات، على مستوى الإدارة السياسية، أو تطوير الفكر والابتكارات الحديثة.

اضف تعليق